فِيها رَواسِيَ) جمع راسية من رسا الشيء إذا ثبت ، أي وخلق فيها جبالا ثوابت لإرساء الأرض بها ، لأن الأرض كانت تتكفأ بأهلها كما تتكفأ السفينة بمن فيها ، قال ابن عباس رضي الله عنه : «أول جبل وضع على وجه الأرض جبل أبي قبيس» (١)(وَأَنْهاراً) أي وخلق فيها مياها جارية لمعاشكم (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها) أي وخلق فيها حين بسطها من أجناس الفواكه (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي زوجين زوجين من جميع الأنواع ، ثم زادت وتكثرت أو جعل من كل نوع منها حلوا وحامضا أو المراد السواد والبياض أو الصغير والكبير (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) بالتخفيف والتشديد (٢) ، أي يلبس النهار بظلمة الليل ويلبس الليل بضوء النهار ، وهذا من قبيل الاكتفاء لدلالة الكلام على أحدهما (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر كله من صنعه تعالى (لَآياتٍ) أي لبراهين (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [٣] فيستدلون بها على التوحيد والتفكر تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب.
(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))
(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) أي بقاع مختلفة متقاربات ، يعني يقرب بعضها من بعض وهي مختلفة كالقطعة الطيبة تنبت في جنبها قطعة سبخة لا تنبت وكقليلة الريع في جنبها كثيرة الريع (وَجَنَّاتٌ) بالرفع عطف على (قِطَعٌ) ، أي وفي الأرض بساتين كثيرة (مِنْ أَعْنابٍ) متنوعة (وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) برفع كلها عطف على (جَنَّاتٌ) ، وبجرها (٣) عطف على ال (أَعْنابٍ) ، ف (صِنْوانٌ) صفة ل (نَخِيلٌ) ، جمع صنو ، وهي النخلات يجمعها أصل واحد ، وغير صنوان هي النخلة المنفردة بأصلها ، نظيرها قنوان جمع قنو ولا فرق بين التثنية والجمع فيهما (٤) إلا في الإعراب ، لأن النون في التثنية مكسورة بعد الألف بلا تنوين ، وفي الجمع منونة مطلقا (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) بالياء ، أي يسقي ما ذكر كله بماء واحد ، والتاء (٥) ، أي تسقي الجنات بما فيها ، وهو الأوجه لقوله (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) أي في الريع حيث لم يقل بعضه ، وقيل : (الْأُكُلِ) بضم الكاف وسكونها الرزق وكل ما يؤكل (٦) ، و «الأكلة» بضم الهمزة اللقمة ، وبالكسر الحالة التي يؤكل عليها ، وبالفتح المرة ، المعنى : أن الماء واحد والتراب واحد والثمار مختلفة في طعمها ولونها وريحها وشكلها ، فدل ذلك على وحدانية الله تعالى على من ضل عنها وأشرك ، لأنه لو كان الخلقة بالماء والتراب لكان في اقتضاء العقل عدم التفاوت في اللون والطعم والريح والشكل ، وعدم التفاضل في الجنس الواحد إذا نبت في جنة واحدة ويسقي بماء واحد ، لكنه يختلف ويتفاضل بصنع الإله اللطيف الخبير (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي في الذي ذكر (لَآياتٍ) أي لدلالات وعبرات (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [٤] أن ذلك كله من الله ، فيؤمنون ، قيل : «هذا مثل بني آدم ، أصلهم من أب واحد منهم صالح عاقل ومنهم خبيث غافل» (٧) ، وقيل : «مثل لقلوبهم الطيبة والسخبة» (٨) ، كلاهما من قلب آدم عليهالسلام فينزل من السماء تذكرة فترق قلوب فتخشع وتقسر قلوب فتلهو ، قال الحسن البصري : «والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان» (٩).
(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ
__________________
(١) انظر البغوي ، ٣ / ٣٣٦ ـ ٣٣٧.
(٢) «يغشي» : قرأ شعبة ويعقوب والأخوان وخلف بفتح الغين وتشديد الشين ، والباقون باسكان الغين وتخفيف الشين. البدور الزاهرة ، ١٦٨.
(٣) «وزرع ونخيل صنوان وغير» : قرأ المكي وحفص والبصريان برفع عين «وزرع» ولام «ونخيل» ونون «صنوان» وراء «غير» ، والباقون بخفض الأربعة ، ولا خلاف في خفض «صنوان» الثاني لإضافة «غير» إليه. البدور الزاهرة ، ١٦٨.
(٤) فيهما ، ب س : ـ م.
(٥) «يسقي» : قرأ الشامي وعاصم ويعقوب بالياء التحتية على التذكير ، والباقون بالتاء الفوقية علي التأنيث. البدور الزاهرة ، ١٦٨.
(٦) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.
(٧) عن مجاهد ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٨٣ ؛ والبغوي ، ٣ / ٣٣٧.
(٨) ذكر الحسن نحوه ، انظر البغوي ، ٣ / ٣٣٧.
(٩) انظر البغوي ، ٣ / ٣٣٨.