الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥))
(وَإِنْ تَعْجَبْ) يا محمد من إنكارهم البعث (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) أي فقولهم حقيق بأن يتعجب منه مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله عزوجل ، وقد تقرر في الأذهان أن الإعادة أهون من الابتداء ، وهو (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي إذا صرنا ترابا بعد الموت أنعاد خلقا جديدا كما كنا قبل الموت ، وقيل : معناه وإن تعجب من تكذيب المشركين القرآن ومن عبادتهم الأصنام الجامدة فاعجب من قولهم هذا أيضا (١) ، فقوله (إِذا) ظرف عامله محذوف وهو أنبعث ، يدل عليه (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ، ومحل الجملة الاستفهامية نصب مفعول (قَوْلُهُمْ) أو رفع بدل منه ، قرئ بهمزة واحدة مع المد للاستفهام في (أَإِذا) و (أَإِنَّا) وبهمزتين محققتين في (أَإِذا) وهمزة واحدة في (إِنَّا) ، وبهمزتين محققتين فيهما وبتسهيل الهمزة الثانية فيهما وبهمزة واحدة في (إِذا) والهمز والمد في (أَإِنَّا)(٢) ، لأن الشك في الثاني دون الأول (أُولئِكَ) أي منكرو البعث (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي هم الكاملون في كفرهم (بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) أي يغل أيديهم على رقابهم يوم القيامة حين خرجوا من قبورهم وحين دخلوا في النار أو هم الذين منعوا عن الرشد بالأغلال في قلوبهم فلذلك أصروا في الكفر (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) أي ملازمون بها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) [٥] أي لا ينفكون عنها ولا يموتون.
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦))
قوله (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) نزل حين سألوا رسول الله أن يأتيهم العذاب استهزاء منهم بذلك (٣) ، والاستعجال طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته ، والسيئة هنا العقوبة ، والحسنة العافية ، أي يطلب كفار مكة العقوبة قبل وقتها بدل العافية ، وهو قولهم (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ)(٤) الآية (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ) أي والحال أنه قد مضت قبل قريش (الْمَثُلاتُ) أي عقوبات أمثالهم من الأمم التي عصت ربها (٥) وكذبت رسلها ، فما لهم لا يعتبرون بهم ، وهي جمع مثلة بفتح الميم وضم الثاء مثل صدقة وصدقات ، وهي العقوبة المماثلة لجناية المعاقب عليه (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أي مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب إن تابوا أو بتأخير العذاب عنهم ، فالمراد من ال (مَغْفِرَةٍ) الإمهال والستر ، ومحله نصب على الحال بمعنى ظالمين أنفسهم بالشرك والمعاصي (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) [٦] لمن مات منهم على ظلمة ولم يتب قبل موته.
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧))
ثم قال تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا) أي هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) أي حجة واضحة تدل على نبوته فلم يعتدوا بالآيات المنزلة على النبي عليهالسلام عنادا ، فطلبوا مثل آيات موسى وعيسى من انقلاب العصا حية وإحياء الموتى ليؤمنوا به ، فقال تعالى لنبيه (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) أي مخوف لهذه الأمة بتبليغ الرسالة (وَلِكُلِّ قَوْمٍ
__________________
(١) اختصره المؤلف من البغوي ، ٣ / ٣٣٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٢ / ١٨٤.
(٢) «أئذا كنا ترابا أئنا» : قرأ نافع والكسائي ويعقوب «أئذا» بهمزتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة علي الاستفهام ، وقرؤا «أئنا» بهمزة واحدة مكسورة علي الخبر ، وكل على أصله ، فقالون يسهل الثانية في «أئذا» ويدخل ألفا بينها وبين الأولى وورش ورويس يسهلانها من غير إدخال والكسائي وروح يحققانها من غير إدخال ، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر بالإخبار في الأول والاستفهام في الثاني ، وكل علي أصله كذلك ، فأبو جعفر يسهل الثانية في «أئنا» مع الإدخال وهشام يحققها مع الإدخال أيضا قولا واحدا ، وابن ذكوان يحققها بلا إدخال ، وقرأ الباقون بالاستفهام فيهما ، وكل على قاعدته فابن كثير بالتسهيل بلا إدخال وأبو عمرو بالتسهيل مع الإدخال وعاصم وحمزة وخلف بالتحقيق من غير إدخال. البدور الزاهرة ، ١٦٩.
(٣) عن ابن عباس ، انظر السمرقندي ، ٢ / ١٨٤ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٣٣٩.
(٤) الأنفال (٨) ، ٣٢.
(٥) وكذبت ربها ، + س.