فَسالَتْ) من ذلك الماء (أَوْدِيَةٌ) جمع واد على الشذوذ ، لأن فعيلا يجمع على أفعلة لا فاعلا ، والتنوين فيها للتقليل ، لأن المطر يأتي بالمناوبة فيسيل بعض الأودية دون بعض ، وقوله (بِقَدَرِها) صفة (أَوْدِيَةٌ) ، أي سال الماء في الوادي الكبير بقدره ، وفي الوادي الصغير بقدره أو بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضار ، فقوله (بِقَدَرِها) بيان ما ينتفع به من الماء (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ) الذي حدث من ذلك الماء (زَبَداً) وهو ما علا على وجه الماء من الخبث كالرغوة على اللبن إذا غلا في القدر (رابِياً) أي مرتفعا منتفخا فوق الماء ، فقوله (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) مثل القرآن الذي هو الحق ، والأودية مثل القلوب ، والسيل مثل كثرة علم القرآن الجاري في نهر القلب ، فيغسله ويزكيه من الغفلة والزبد مثل الباطل الزائل الذي يتعلق بالأشجار وجوانب الأودية يريد أن القرآن نزل من الله على العباد ، فاحتمل منه قلوب أصحاب اليقين على قدر يقينهم بعد أن رفع الشك والجهل والباطل التي كانت بهم فرمي بها عن قلوبهم واضمحلت كما يذهب السيل بالزبد العالي على وجه الماء المختلط بأجناس كثيرة منقطعا ممحوا ، ويبقي الماء الصافي الباقي في الأودية من الأرض فينتفع الناس به ، قوله (وَمِمَّا يُوقِدُونَ) بالتاء والياء (١)(عَلَيْهِ فِي النَّارِ) مثل آخر و (مِنَ) للتبعيض ، والإيقاد جعل النار تحت شيء أو فوقه ليذوب ، وهو مرفوع المحل خبر المبتدأ ، أي ومن بعض الجواهر الذي يستوقدون عليه في النار ليذوب ويبقى خالصا كالذهب والفضة (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) مفعول له ، أي لالتماس زينة يلبسونها يخرج منهما الخبث ويبقيان خالصين (أَوْ مَتاعٍ) عطف على (حِلْيَةٍ) ، وفائدة ذكرهما بيان وجه الانتفاع بما يوقد (٢) عليه في النار ويذاب (٣) من الجواهر وهو الحلية والمتاع ، أي لطلب متاع وهو ما ينتفع به من غير الذهب والفضة كالحديد والنحاس والصفر تذاب وتتخذ (٤) منها الأواني وغيرها مما ينتفع بها (٥)(زَبَدٌ) مرفوع بالابتداء للخبر المتقدم وهو مما يوقدون (٦) ، يعني ينشأ منه زبد (مِثْلُهُ) صفة ال (زَبَدٌ) ، المعنى : ومما يوقد عليه له زبد أيضا إذا أذيب مثل زبد الماء ، فالباقي الصافي من هذه الجواهر مثل القرآن الحق ، والزبد الذي لا ينتفع به مثل الباطل والشك ، ويجوز أن يكون هذه الأمثال للمؤمن والكافر ، فالمؤمن عمله واعتقاده كالماء المنتفع به ، والكافر عمله واعتقاده كالزبد الزائل الذاهب (كَذلِكَ) أي مثل ذلك البيان (يَضْرِبُ) أي يبين (اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) بالمثل كما هو عادة العرب في توضيح الكلام المقصود لإقامة الحجة على المخاطب (فَأَمَّا الزَّبَدُ) الذي علا السيل والجوهر المذاب (فَيَذْهَبُ جُفاءً) أي ضائعا سريعا ، والجفاء ما رمى به الوادي من الزبد والقدر إلى الجانب عن الغليان وإذا سكنت لم يبق فيها شيء ، فهو مثل الباطل ، لأنه لو علا الحق في وقت ما فانه يضمحل سريعا (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) من الماء الصافي والجوهر الصافي (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) أي يبقى فيها ولا يذهب فينبت المرعى ينتفع منه الدواب والأناسي ، وكذلك الجوهر المذاب الذي ذهب خبثه ينتفع به الناس للحلية واتخاذ المتاع (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) [١٧] ليظهر الحق من الباطل.
(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨))
قوله (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ) أي للمطيعين لله في الدنيا بالطاعات (الْحُسْنى) أي المثوبة الفضلى وهي الجنة في الآخرة ، يجوز أن يكون كلاما مستأنفا بأن يكون (الْحُسْنى) مبتدأ ، خبره (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا) ، ويجوز أن يتعلق ب (يَضْرِبُ) ، أي كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين أجابوا ربهم ، و (الْحُسْنى) صفة لمصدر
__________________
(١) «يوقدون» : قرأ حفص والأخوان وخلف بياء الغيبة ، والباقون بتاء الخطاب. البدور الزاهرة ، ١٦٩.
(٢) يوقد ، ب : توقد ، س م ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ١٠٤.
(٣) يذاب ، ب م : تذاب ، س ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٣ / ١٠٤.
(٤) تتخذ ، ب م : يتخذ ، س ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٣٤٨.
(٥) ينتفع بها ، س : ينتفع بهما ، ب م ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٣ / ٣٤٨.
(٦) يوقدون ، ب م : توقدون ، ب.