(وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨))
(وَقالَ مُوسى) لقومه تأكيدا لذلك (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) بنعمة الله ولم تؤمنوا به (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ) عن إيمانكم وشكركم (حَمِيدٌ) [٨] أي مستوجب للحمد في أفعاله وإن لم يحمده الحامدون ، لأنه فيها إما متفضل أو عادل.
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩))
ثم قال تعالى لكفار مكة تهديدا (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) يا أهل مكة (نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي خبرهم في القرآن كيف عذبهم الله عن تكذيبهم رسلهم ، قوله (قَوْمِ نُوحٍ) بالجر بدل من «الذين» ، ثم عطف على «قَوْمِ» (وَعادٍ وَثَمُودَ) فانه أهلك قوم نوح بالغرق وعاد بالريح وثمود بالصيحة (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) محله جر عطف على (ثَمُودَ) أو رفع مبتدأ ، خبره (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) جملة معترضة لنفي علم الأنساب عمن يدعيه ، أي لا يعلم من كان بعد قوم نوح وعاد وثمود إلا الله لكثرتهم.
قال ابن مسعود : «كذب النسابون» عند قراءته هذه الآية (١) ، يعني أنهم يدعون علم الأنساب والله تعالى نفى علمها إلا عنه ، قال ابن عباس : «بين إبراهيم وعدنان ثلثون قرنا» (٢) ، وقيل : إنهم من الكثرة بحيث لا يعلمهم إلا الله (٣) ، وعدنان هو الأب الأكبر الذي ينتهي إليه نسب النبي عليهالسلام (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالدلالات الواضحة عند تبليغهم الرسالة (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) أي وضعوا أصابع أيديهم على أفواههم تعجبا مما سمعوا من كتاب الله أو أشاروا بوضع الأيدي على أفواههم أن اسكتوا أو عضوا أيديهم غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل ضحكا واستهزاء ، يعني كذبوا رسلهم (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) من الكتاب (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ) أي تردد (مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ) من التوحيد (مُرِيبٍ) [٩] أي موجب للريبة موقع للتهمة أو ظاهر الشك وهو للمبالغة في الشك ، يقال أراب الرجل إذا صار ذا ريبة وتهمة وهي قلق النفس في ثبوت شيء.
(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠))
(قالَتْ) لهم (رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ) أدخل همزة الاستفهام على الظرف ليدل على أن الإنكار في المشكوك فيه ، وهو الله لا في الشك ، أي أفي وحدانية الله لكم شك وهي ظاهرة لا تحتمل (٤) الشك لظهور الأدلة الشاهدة عليها ، وأشار إليها بقوله (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما وهو صفة الله (يَدْعُوكُمْ) إلى التوحيد من الشرك والإقرار بتوحيده (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) و (مِنْ) زائدة عند الأخفش ، أي ذنوبكم التي بينكم وبين ربكم دون المظالم ومنع سيبوية زيادة (مِنْ) في الإيجاب ، وقيل : (مِنْ) للبدل (٥) ، أي بدل عقوبة ذنوبكم (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى وقت معلوم في اللوح وهو الموت المقدر إن آمنتم وإلا يصيبكم العذاب قبل حلول الأجل تعجيلا (قالُوا) للرسل (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) في الصورة ولستم ملائكة (تُرِيدُونَ) بقولكم هذا (أَنْ تَصُدُّونا) أي تصرفونا (عن ما (كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأصنام (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) [١٠] أي بحجة ظاهرة على صحة دعويكم ، والمراد الآية المقترحة تعنتا.
__________________
(١) انظر السمرقندي ، ٢ / ٢٠١ ؛ والبغوي ، ٣ / ٣٦٨.
(٢) انظر البغوي ، ٣ / ٣٦٨.
(٣) أخذه المصنف عن البغوي ، ٣ / ٣٦٨.
(٤) لا تحتمل ، ب م : لا يحتمل ، س.
(٥) وهذا الرأي مأخوذ عن القرطبي ، ٩ / ٣٤٧.