قيل : «حق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلا ، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفا» (١).
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠))
قوله (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) تذكير لهم النعم ليشكروا ربها ولا يكفروا به ، أي أقدرناكم فيها بالتصرف وملكناكم (٢)(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أي ما تعيشون به من الرزق أو ما يتوصل به كالزروع والضروع ، والياء بعد الألف لا تهمز فيها ، لأنها أصلية من المعيشة ، أصلها معيشة ، مفعلة من العيش ، فأعلت تبعا لإعلال فعلها ، وهو يعيش ، ثم وبخهم بقوله (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) [١٠] أي لا تشركون رب هذه النعم (٣).
(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١))
(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أي خلقنا آدم من تراب وإياكم من نطفته نسلا بعد نسل ، ثم صورنا آدم في الأرض وصورناكم في أرحام الأمهات أو يوم الميثاق من ظهره أو خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور ، صورناه بعد ذلك ، وجمع تعظيما له (٤) ، ويوضح هذا التأويل قوله (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) سجدة التحية ولله سجدة العبادة ، ف (ثُمَّ) على هذا للتراخي في الزمان وعلى المعنى الأول بمعنى (٥) الواو (فَسَجَدُوا) لآدم (إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) [١١] أي لم يسجد مع الملائكة لآدم كبرا وحسدا.
(قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣))
(قالَ) الله توبيخا بالاستفهام لإبليس وإظهارا لما أضمره في نفسه من الكبر والحسد (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) أي أي شيء منعك من السجود يا إبليس ، ف «لا» زائدة لتوكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه ، والغرض هنا إظهار وجوب السجود بصورة النفي (إِذْ أَمَرْتُكَ) أي وقت أمري لك بالسجود لآدم ، وفيه دليل على أن الأمر للوجوب وللفور (قالَ) إبليس منبها على فضله من أول الأمر ، وقد كان جوابه أن يقول منعني كذا (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) أي أفضل منه مرتبة ، ثم بين وجه الفضل على زعمه فقال (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [١٢] فأخطأ اللعين لمخالفة الأمر والاعتقاد بأن السجود لآدم حسب والاشتغال بالقياس في موضع النص ، ولم يعلم بأن القياس في موضع النص باطل ، ولأنه فضل النار على الطين ولم يعلم بأن الفضل لما فضله الله ، قيل : إن الخطأ إذا احتج له صار عمد (٦) والذي يدل على فساد قياسه أنه لم يجب بل طرد بالإهانة بأن (قالَ) تعالى له (فَاهْبِطْ) أي انزل (مِنْها) أي من الجنة لكونها للمطيعين (فَما يَكُونُ) أي ما ينبغي أو ما يصح (لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) أي تتعظم في الجنة على بني آدم (فَاخْرُجْ) أي أبعد منها (إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) [١٣] أي الذليلين لتكبرك وإبائك من السجود ، يقال صغر فلان صغرا إذا ذل.
(قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤))
(قالَ) إبليس طالبا لاستيفاء حظه من الدنيا آيسا من نعيم الآخرة (أَنْظِرْنِي) أي أمهلني لا تمتني (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [١٤] أي إلى أن يخرج الناس من قبورهم وهو النفخة الأخيرة ، قال ابن عباس رضي الله : «أراد اللعين أن لا يذوق الموت» (٧) ، إذ لا موت بعدها فأبى الله تعالى ذلك عليه.
__________________
(١) عن الحسن ، انظر الكشاف ، ٢ / ٩٩ ـ ١٠٠ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٢ / ٤٥٣.
(٢) وملكناكم ، ب : مكناكم ، س م ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ١ / ٥٣٢ ؛ والبغوي ، ٢ / ٤٥٣ ؛ والكشاف ، ٢ / ١٠٠.
(٣) النعم ، ب م : النعمة ، س.
(٤) وجمع تعظيما له ، ب : وجمع تعظيما ، س ، ـ م.
(٥) بمعنى ، ب س : ثم المعنى ، م.
(٦) ولم أجد له أصلا في المصادر التي راجعتها.
(٧) انظر السمرقندي ، ١ / ٥٣٣.