(وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣))
(وَلَوْ تَرى) يا محمد (إِذِ الْمُجْرِمُونَ) أي المشركون (ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) أي مطأطئوها حياء وخجلا وندما (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يوم القيامة لرأيت أمرا عظيما لا يدرك وصفه ، ويجوز أن يكون (لَوْ) للتمني ، أي ليتك تراهم على تلك الحالة الردية الفظيعة من الخزي والغم لتشمت بهم أو هو خطاب عام ، فثم يقولون (رَبَّنا أَبْصَرْنا) معاصينا (وَسَمِعْنا) قول الرسل (فَارْجِعْنا) إلى الدينا (نَعْمَلْ) عملا (صالِحاً) فيها (إِنَّا مُوقِنُونَ) [١٢] بما أنكرنا ثمه من البعث ، وقيل معناه : قد آمنا وأيقنا بالقيامة ولكن لا ينفعهم (١) ، فقال تعالى (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) أي رشدها على طريق القسر والإلجاء ولكنا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار فاستحبوا العمى على الهدى (وَلكِنْ حَقَّ) أي وجب (الْقَوْلُ) بالوعيد على أهل العمى (مِنِّي) وهو (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [١٣] أي من كفارهما.
(فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤))
(فَذُوقُوا) أي قلنا لهم يوم القيامة ذوقوا العذاب (بِما نَسِيتُمْ) أي بسبب نسيانكم وذهولكم بالشهوات عن تذكر العاقبة أو النسيان بمعنى الترك ، أي بسبب ترككم (لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) يعني يوم القيامة والاستعداد له (إِنَّا نَسِيناكُمْ) أي جازيناكم جزاء نسيانكم وتركناكم في النار كما تركتم العمل بطاعتنا لهذا اليوم (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) أي الدائم في جهنم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [١٤] من الكفر والمعاصي الموبقة.
(إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥))
ثم قال تعالى مخبرا عن حال المخلصين من عباده (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا) أي وعظوا (بِها) أي بتلك الآيات (خَرُّوا سُجَّداً) في الصلوة أو سجدوا تواضعا لله وخشوعا وشكرا على ما رزقهم من الإسلام (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي نزهوا الله من نسبة القبائح إليه واثنوا عليه حامدين أو صلوا بأمره (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [١٥] عن الإيمان والطاعة.
(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦))
قوله (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) نزل في المتهجدين (٢) ، أي تبعد وترتفع جنوبهم عن الفرش والوساد لترك النوم (يَدْعُونَ) أي داعين (رَبَّهُمْ) يعني عابدين له (خَوْفاً وَطَمَعاً) أي لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته أو خوفا من القطيعة وطمعا في الوصل (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [١٦] أي يتصدقون طوعا.
(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧))
(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) ما) استفهام ، مبتدأ و (أُخْفِيَ لَهُمْ) مجهولا خبره ، والضمير في (أُخْفِيَ) راجع إلى (ما) ، والجملة في محل النصب ب (تَعْلَمُ) سد مسد المفعولين ، وقرئ «ما أخفي» بسكون اللام (٣) على البناء للفاعل مستقبلا وهو الله تعالى ، و (ما) بمعنى الذي عامله (تَعْلَمُ) أو بمعنى أي شيء ، عامله (أُخْفِيَ (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)(٤) هي ما تقر به أعينهم وتسكن إليه أنفسهم في محل النصب حال من فاعل (أُخْفِيَ) ، والمعنى : لا تعلم نفس ما من ملك مقرب ولا نبي مرسل أي نوع من الثواب ادخر الله لأولئك واخفاه (٥) من جميع خلائقه ثم
__________________
(١) اختصر المصنف هذا المعنى من السمرقندي ، ٣ / ٣٠.
(٢) عن الحسن ومجاهد ، انظر الواحدي ، ٢٩١ ؛ والبغوي ، ٤ / ٤٢٣ ؛ والكشاف ، ٥ / ٢٨.
(٣) «أخفي» : قرأ حمزة ويعقوب باسكان الياء ، والباقون بفتحها ولا خلاف بينهم في ضم الهمزة وكسر الفاء.
البدور الزاهرة ، ٢٥٣.
(٤) أي ، ح : ـ وي.
(٥) اخفاه ، و : اخفاءه ، ح ي ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٥ / ٢٨.