بالجراح ، أي أوهنتموهم وقهرتموهم قتلا وأسرا (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) وهو بفتح الواو اسم لما يوثق به وقد جاء بكسر الواو لغة ، أي احتاطوا في شدهم بشد أيديهم من خلفهم لئلا يفلتوا ، ولما قوى الإسلام نزل (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) أي تمنون عليهم منا باطلاقهم بعد الأسر (وَإِمَّا فِداءً) أي تفادونهم أنفسهم بأموالهم ، يعني أنتم مخيرون في ذلك (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ) أي أصحاب الحرب (أَوْزارَها) أي سلاحها أو المراد ب (الْحَرْبُ) المحاربون ، أي حتى (١) تضع المحاربون أوزارهم ، أي (٢) آثامهم من الشرك والمعاصي بالإسلام ، و (حَتَّى) متعلقة بال «ضرب» وال «شد» أو بال «من» وال (فِداءً) ، أي إلى أن لا يبقى حرب مع المشركين لضعفهم (٣) أو لإسلامهم (٤) أو لنزول عيسى عليهالسلام ، فان الملك كلها تبقي على الإسلام حينئذ ، والآية محكمة عند الشافعي وجماعة لإطلاق النبي عليهالسلام ثمامة ثم أسلم بعد اليوم الثالث ولفدائه رجلا من عقيل كان أسيرا عند ثقيف (٥) برجلين كانا من ثقيف أسيرين عنده عليهالسلام ، ومنسوخة عند أبي حنيفة وجماعة لقوله تعالى «اقتلوا الْمُشْرِكِينَ»(٦) ، فانه عليهالسلام قتل يوم الفتح ابن خطل بعد ما وقع في منعة المسلمين فهو كالأسير ولا يجوز أن يفتدى بمال أصلا إلا عند الضرورة ، لأن رد الأسير إلى دار الحرب قوة لهم في الحرب فيكره كما يكره بيع السلاح لهم وإن يفتد بأسير من المسلمين فلا بأس به ، فعلى ما ذهب إليه أبو حنيفة رضي الله عنه لو علق (حَتَّى) بالضرب والشد فالمعنى عنده أنهم يقتلون ويؤسرون إلى أن تضع الحرب أوزارها لضعف المشركين ، ولا يرى فداءهم لا بمال ولا بغيره خيفة أن يعودوا حربا للمسلمين ولو علق بالمن والفداء كان المعنى يمن عليهم ويفادون حتي تضع حرب بدر أوزارها ، لأنه قال نزلت الآية في المن والفداء يوم بدر ثم نسخت ، وأما المعنى على كلا المتعلقين عند الشافعي فهو أنهم لا يزالون على ذلك أبدا إلى أن لا يبقى للكفار شوكة حرب مع المسلمين (٧) ، قوله (ذلِكَ) يجوز في محله الرفع والنصب ، أي الحكم فيهم ذلك أو افعلوا ذلك (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) أي لانتقم بغير الأمر بقتال باهلاكهم (وَلكِنْ) أمركم بالقتال (لِيَبْلُوَا) أي ليختبر (بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) بالقتال ، يعني ليختبر المؤمنين بالكافرين وبالعكس ليظهر لكم منكم الطائع والعاصي (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) مجهولا لا مخففا أو معلوما (٨) أو قاتلوا (فَلَنْ يُضِلَّ) الله (أَعْمالَهُمْ) [٤] أي لن يبطل ثوابها.
(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦))
(سَيَهْدِيهِمْ) أي سيثبتهم على الهدى (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) [٥] أي حالهم أيام حيوتهم بالعصمة (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ) في الآخرة (عَرَّفَها) أي طيبها (لَهُمْ) [٦] أو اعلم منزلهم فيها لهم عند دخولهم الجنة ، روي عن النبي عليهالسلام : «إذا أذن لأهل الجنة في دخولها لأحدهم أعرف بمنزله في الجنة من منزله الذي كان في الدنيا» (٩) ، يعني يكون المؤمن أهدى إلى منزله وزوجته وخدمه في الجنة منه في الدنيا وقد طيب وحدد ، أي أفرز عن غيره.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩))
ثم حث المؤمنين على الجهاد بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) بقتال الكفار (يَنْصُرْكُمْ) بالغلبة عليهم (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [٧] في المعترك فلا تزول في الحرب.
__________________
(١) حتى ، وي : ـ ح.
(٢) أي ، ح و : ـ ي.
(٣) لضعفهم ، وي : بضعفهم ، ح.
(٤) أو لإسلامهم ، وي : ـ ح.
(٥) وجماعة ، + ح.
(٦) التوبة (٩) ، ٥.
(٧) اختصر المفسر هذه الأقوال من السمرقندي ، ٣ / ٢٤٠ ـ ٢٤١ ؛ والكشاف ، ٥ / ٢٦١ ـ ٢٦٢.
(٨) «قتلوا» : قرأ حفص والبصريان بضم القاف وكسر التاء ، والباقون بفتح القاف والتاء وألف بينهما. البدور الزاهرة ، ٢٩٦.
(٩) روى البخاري نحوه ، الرقاق ، ٤٨ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٢٤١.