(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤))
قوله (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ) نزل مدحا فيمن خفض صوته عند النبي عليهالسلام مخافة أن يحبط عمله ، وهو ثابت بن قيس لأنه كان يرفع الصوت لديه عليهالسلام (١) ، أي أن الذين يخفضون (أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) إجلالا له (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ) أي جرب وحقق (اللهِ) باختباره بالمحن والشدائد والاصطبار عليها (٢)(قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي كائنة لها مختصة بها ، واللام للاختصاص أو (امْتَحَنَ) بمعنى أخلص ، من امتحن الذهب إذا أذابه ليتميز إبريزه من خبيثه ، يعني أخلص قلوبهم ونقاها من الشهوات إظهارا للتقوى وهي صد النفس عن مرادها السوء واللام للتعليل (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) [٣] أي ثواب وافر في الجنة ، روي : أن وفد بني تميم أتوا رسول الله عليهالسلام قوت الظهيرة وهو راقد ، فجعلوا ينادونه يا محمد اخرج إلينا فاستيقظ فخرج فانزعج بهم ، فسئل رسول الله عليهالسلام عنهم فقال : «هم حفاة بني تميم لو لا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم» فنزل ذما (٣)(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) أي من خلفها ، جمع حجرة وهي أرض يحجر عليها بحائط ونحوه ، والمراد حجرات نساء النبي عليهالسلام ، فكل من جاءه من الأعراب ينادي من خلف حجرة منها ، وجمعت تعظيما لشأنه عليهالسلام و (مِنْ) لابتداء الغاية وخبر «إِنَّ» (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [٤] حرمة النبوة ، لأنهم نادوه من ظاهر الدار بجفاء وغلظة ، ففيه تنبيه على قدره والتأدب معه عليهالسلام لكل حال وهو أن يجلسوا على بابه ولا يدقوا عليه بابه حتى يخرج لقضاء حاجته احتراما له عليهالسلام.
(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))
(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا) أي لو ثبت صبرهم (حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ) الصبر (خَيْراً لَهُمْ) وأحسن لأدبهم ويعلم من (حَتَّى) الدالة على الغاية المضروبة لصبرهم أن ليس لهم أن يقطعوا أمرا دون الانتهاء إليها (وَاللهُ غَفُورٌ) لمن تاب عن النداء من خلف الحجرة (رَحِيمٌ) [٥] لمن أطاع الأمر ، وقيل : سبب نزول هذه الآية أن النبي عليهالسلام بعث أسامة بن زيد إلى قبيلة بني العنبر ليغزوها فأغار عليهم وسبى ذراريهم ، فجاء جماعة منهم ليشتروا أسراءهم ، فنادوه من وراء الحجرات بغلظة وكان وقت الظهيرة ، أي وقت القيلولة وهو راقد ، فلما خرج النبي عليهالسلام كلموه في أمر الذراري فقال لواحد منهم احكم أنت فقال حكمت أن تخلي نصف الذراري وتبيع النصف منا ، ففعل النبي عليهالسلام كذلك فنزل الآية تنبيها على أنهم لو صبروا لكان خيرا لهم (٤) ، يعني لو لم ينادوه لكان النبي عليهالسلام يعتقهم كلهم.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦))
قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) نزل حين بعث النبي عليهالسلام الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليقبض الصدقات ، فخرجوا إليه ليعظموه فخشي منهم لما كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فرجع إلى النبي عليهالسلام هاربا وقال إنهم منعوا الصدقة وهموا بقتلي ، فهم رسول الله عليهالسلام أن يبعث لقتالهم فجاؤا إلى المدينة وقالوا : يا رسول الله لما بلغ خبر قدوم رسولك إلينا خرجنا أن نتلقاه بالتعظيم ، فرجع عنا ونحن خشينا أن يكون رده كتاب أتاه منك ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فاغتم النبي عليهالسلام بما فعل الوليد وأرسل إليهم بعد
__________________
(١) عن أنس بن مالك ، انظر البغوي ، ٥ / ١٩٦ ؛ وانظر أيضا السمرقندي ، ٣ / ٢٦١.
(٢) عليها ، ي : ـ ح و.
(٣) أخذه المفسر عن الكشاف ، ٦ / ١٤.
(٤) هذا مأخوذ عن السمرقندي ، ٣ / ٢٦٢ ؛ وانظر أيضا البغوي ، ٥ / ١٩٧.