عداوته في نفسه ، ويجوز أن يكون المراد من ال (صَيْحَةٍ) مخاطبة النبي عليهالسلام الصحابة ، أي يحسبون كل خطاب من النبي عليهالسلام لصحابي واقعا عليهم خوفا من أن يكون قد نزل من الله فيهم ما يبيح دماءهم ، وقيل : (هُمُ الْعَدُوُّ) في محل النصب مفعول ثان ل (يَحْسَبُونَ) ، وحقه أن يقال هي العدو نظرا إلى الظاهر إلا أنه جمع نظرا إلى المقدر قبل (كُلَّ)(١) ، أي أهل كل صيحة أو إلى العدو (فَاحْذَرْهُمْ) من إفشاء سرك للكفار (قاتَلَهُمُ اللهُ) أي أهلكهم ، دعاء عليهم أو تعليم للمسلمين أن يدعوا عليهم (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [٤] أي كيف (٢) يصرفون عن الإيمان بالقرآن بعد قيام البرهان ، وفيه تعجيب من جهلهم.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦))
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) أي لابن أبي وقومه (تَعالَوْا) إلى النبي عليهالسلام معتذرين (يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا) بالتشديد والتخفيف (٣) ، أي عطفوا (رُؤُسَهُمْ) معرضين عن الاستغفار (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) أي يعرضون عن طلب الاستغفار (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) [٥] عن الإيمان في السر. روي : أنه قيل له نزلت فيك أيات شداد فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك ، فلوى رأسه وقال أمرتموني أن أو من فآمنت وأمرت أن أزكي مالي فزكيت فما بقي لي إلا أن أتعبد محمدا فنزل (٤)(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) لنفاقهم (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [٦] أي لا يرشد إلى دينه الخارجين عن أمره بالنفاق ، فأخبر تعالى أن استغفاره لهم لا ينفعهم ما داموا على نفاقهم.
(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧))
قوله (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ) الآية نزل حين ذهب رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة مع أصحابه ، ونزل بالمريسيع وهو ماء من مياه بني المصطلق ، فدار على الماء ووقع بين غلام عمر وسنان بن وبر الجهني كلام فاقتتلا ، فصرخ سنان يا معشر الأنصار وصرخ الغفاري يا معشر المهاجرين ، فجاؤا واقتتلوا فسمع النبي عليهالسلام ذلك ، فقال : ما بال دعوى الجاهلية دعوها ، فانها منفية ، فقال عبد الله ابن أبي وهو حليف الأنصار لقومه لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ، يعني أصحاب رسول الله عليهالسلام ، ثم قال أيضا : «والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» ، فقال عمر : «دعني يا رسول الله أضرب رأس هذا لمنافق» ، فقال عليهالسلام : «دعه كيلا يتحدث الناس أن محمدا يقبل أصحابه» (٥) ، فأخبر تعالى عنهم توبيخا بقوله «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ» (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) من الفقراء (حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي يذهبوا متفرقين عنه فقال تعالى (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مفاتيح الرزق بيده في السموات والأرض فهو رازقهم منها (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) [٧] أي لا يعلمون ما لهم وما عليهم من الله.
(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨))
ثم أخبر عنهم أيضا بقوله (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ) بالرفع فاعل «يخرج» ، أي القوي
__________________
(١) هذا الرأي مأخوذ عن الكشاف مختصرا ، ٦ / ١١٧.
(٢) كيف ، ح : ـ وي.
(٣) «لووا» : خفف الواو الأولى نافع وروح ، وشددها الباقون ، ولا خلاف في تخفيف الواو الثاني. البدور الزاهرة ، ٣٢١.
(٤) نقله المؤلف عن السمرقندي ، ٣ / ٣٦٥ ؛ وانظر أيضا الكشاف ، ٦ / ١١٧.
(٥) اختصره المفسر من السمرقندي ، ٣ / ٣٦٥ ـ ٣٦٦ ؛ وانظر أيضا الواحدي ، ٣٥٣ ـ ٣٥٤ ؛ والكشاف ، ٦ / ١١٧.