وثانيها ـ أن ضعفهم أفقدهم قوة الإيمان ، والشك فى حكم الديان حتى أنهم ليقولون لموسى عليهالسلام : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. وذلك تهكم يدل على وهن إيمانهم ، كما وهنت نفوسهم.
وثالثها ـ أن الأمم لا تتربى إلا بتعود خشونة العيش ، كما تعودت نعومته ، وأن تذوق جشبه كما ذاقت حلاوته ، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى أنه لا يمكن أن يدخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله تعالى عليهم أن يدخلوها فقال سبحانه : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ).
وهذا كما يبدو من الآية تحريم كونى ، أى أنه لا يمكن أن يستطيعوا الدخول إلى الأرض المقدسة مقاتلين مجاهدين إلا بعد أن يذهب عنهم ذل الوهن ، ويأتى جيل جديد قد ذاق طعم الشدة ، وعلم الحياة نضالا ، ولم يعلمها استكانة وضعفا ، والتقدير بالأربعين ، لا أحسب أنه يقصد به العدد ولكن يقصد به الكثرة التى تنشئ جيلا تربى فى شظف العيش وصلابة الحياة وقسوتها.
ولقد أخذ هذه الحقيقة القرآنية ابن خلدون ، وجعل أساس قوة الأمم شدة الحياة وصلابتها ، فإنها إذا استرخت أدال الله منها بقوم أولى بأس شديد تربوا فى البداوة ، وذاقوا بأساءها.
٢ ـ قصص القرآن لون من تصريف بيانه
٨٣ ـ ذكرنا أن البيان القرآنى فيه تصريف القول على ألوان متعددة متباينة فى حقيقتها متلاقية فى غايتها ، ولا يمكن أن يكون لكلام بشر مع سمو البلاغة ، وبلوغها المقام الذى لا يناصى فى كل أصنافها ، بل لا يمكن أن يبلغ الغاية فى صنف واحد من أصنافها ، وقد ذكرنا ما فى القرآن من إطناب من غير تكرار ، وذكرنا ما يتوهم فيه التكرار فى القصص وبينا أنه لا تكرار يعد ترديدا ولو على سبيل التوكيد ، وما يتوهم فيه التكرار إنما هو تجديد المعنى لغاية أخرى ومقصد آخر ، وكان الذكر لما يتوهم تكراره فيه كمال المعنى ، ولا يمكن أن يستغنى القول عنه ، إنما التكرار المردود يكون فيما لو حذف المتوهم تكراره ما نقصت الغاية ، وما اختل بيان المقصد ، وتكرار القرآن ليس على هذا بل هو تكميل لا بد منه ، وتتميم لا يستغنى عنه ، وذلك يكون فى القصص ، وفى الاستدلال بآيات الله تعالى الكونية ، على وحدة من خلق وكون وأبدع ، وقد ضربنا على ذلك الأمثال.
والآن نذكر القصص القرآنى على أنه لون من تصريف البيان القرآنى ، وتغير أشكاله كما ذكر الله تعالى فى القرآن : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ).