من هذا البناء ، والخيال يرى الصورة من وراء العبارات كأنها بين يديه حقيقة بالعيان وليس خبرا من الأخبار ، وإن كان يذكر فى أعلى صور القصص المصور. ثم ترى الإيذان بالابتعاد عن موطن الغرق ، وقد فار التنور ، وإنى قد أدرك من هذا أنها كانت تسير بالبخار إذ فار التنور فتحركت بعد أن فار ، والله تعالى أعلم بمراده ، وإن كان اللفظ دالا ، بل هو مصور لتنور فار فحرك ببخاره ما حرك من آلات تسيّر السفينة ، وتجرى بهم فى موج كالجبال ، والقارئ يرى فى هذا صورا تثير الخيال ، وتجعل الخبر مرئيا أو كالمرئى ، وإن ذكر الموج فى هذا المقام يصور كيف كان السيل عارما ، وأنه لم يكن غيثا حتى لم يبق إلا من خرج بالسفينة نجيا.
ثم نجد فى ذلك القصص أمرا معنويا مصورا كأنه ملموس ، وهو حنان الأب ، ورفقه بولده ، فقد رأينا فى النبى المجاهد عاطفة الأبوة تعلو ؛ فينادى ابنه وكأننا نسمع النداء فى مشهد من مشاهد الأبوة ، ثم نجد الابن ، وقد غره غرور الصبا ، والابتعاد عن التصديق ، حتى حسب أنه بمنجاة من الغرق ، إذ اعتصم بجبل آوى إليه ، وحال بينه وبين أبيه الموج ، فكان من المغرقين ، والأب تنفطر نفسه ، فتغلبه شفقة الأبوة عن رؤية أمارات الموت ، ويتجه إلى ربه باكيا حزينا إذ نجا أهله إلا ابنه ، فيقول ، وكأننا من فرط التصوير نسمع أنين الأب ، بعد أن نجا كل من فى السفينة ، وقد استوت فى طريقها وهلك الظالمون ، يضرع إلى ربه يقول : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) وكان قد وعده ربه بأن ينجى أهله ، فيقول : إن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين ، وهنا نجد رب العالمين يبين أنه داخل فى عموم الكافرين ، لأنه كفر ، وأهلك هم الذين آمنوا ، ولم يعارضوك ، ويقول سبحانه : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٤٦).
تعارض العطف مع الواجب ، فتحت قوة العاطفة الأبوية نطق بما نطق فنبهه الله تعالى إلى الواجب ، ولم ينبه غافلا ، ولكنه نبه يقظا مؤمنا ضارعا وإن كان قد ناجى ربه بصوت البشرية ، فتاب ، و (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤٧).
القصص الحق المصور فى أهل الكهف
٩١ ـ ومن أروع القصص القرآنى المصور فى صدقه ، وسرد حقائقه قصة أهل الكهف التى هى آية وحدها فى التصوير البيانى القصصى الصادق ، وهى فى كل جزئية تصور الأمر كأنه مرئى بالحس ، لا مذكور بالخبر وحده واقرأ قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً