ولا للإنكار ولا للتعجب ، ولا لغير ذلك مما ذكرناه مقاصد للاستفهام ، وفى النص القرآنى تأكيد لجحود الذين كفروا ، والإشارة إلى أنهم سبقوا إلى الجحود ، فالأدلة مهما تكن قوية لا تجد مكانا فارغا لتملأه ولكنها تجد قلبا مملوءا جحودا ، فلا سبيل لأن يدخل الحق ، ومن ذلك قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢١) [إبراهيم : ٢١].
فهنا كانت التسوية بين أمرين من حيث الانتهاء إلى نتيجة واحدة ، فإن الأمر الذى لا يكون ثمة مفر منه ، يستوى فيه الصبر والجزع من حيث إن كليهما لا يدفع المحظور ، وإن كان الصبر أجدى لأنه يوجد فى الجملة قرارا ورضا وتقديرا للأمر. كما قال صلىاللهعليهوسلم : «إن صبرتم أجرتم ، وإن جزعتم وزرتم».
وقد تكون ألف الاستفهام للترديد بين أمرين فى ظاهر القول ، وليست الغاية متحدة ، والعقل يقرر صدق أحدهما فى قوله تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها) (٢٩) [النازعات : ٢٧ ـ ٢٩] فإن هذا الاستفهام ليس فيه تسوية بين أمرين فى الحكم أو النتيجة والغاية ، بل المعقول يثبت أحدهما ، وينقض الآخر بدليل من العقل والحس ، فإنه لا شك أن الأشد خلقا هو الأكبر حسا ، والأعظم تأثيرا ، والأدق إحكاما ، وهو السماء بما يتصف فيها ، وإذا كان سبحانه مالك السموات والأرض ، وما بينهما ، وما فيهما ، من دابة فهو على ما يشاء قدير.
ومؤدى هذا الكلام نفى سلبى وحكم إيجابى ، فأما النفى السلبى فهو أن الإنسان ليس أشد خلقا ، وأما الحكم الإيجابى ، فهو بيان سلطان الله سبحانه وتعالى القاهر فوق كل شىء.
وهذا النوع من الترديد إنما يكون دائما لحمل المخاطب على الحكم الصحيح فهو لا يدل على التسوية ، بل يدل على التفرق فى الحكم ولينطقوا بالصواب أو ليلتزموا به ، إن لم ينطقوا ، أو ليفحموا إن لم يسترشدوا وضلوا ، وهو استدلال على الحكم ، ومن ذلك النوع من الاستفهام قوله تعالت كلماته :
(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ