السؤال جاء على ألسنة المشركين معترضين ، متخذين منه سبيلا للجاجتهم ، وقد نقل القرآن الكريم عنهم ذلك ورده. فقد قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٣٢) [الفرقان : ٣٢].
ونرى أن النص الكريم قد نقل اعتراض المشركين ، ورده سبحانه وتعالى عليهم ، وقد تضمن الرد ثلاثة أمور تومئ إلى السبب فى نزوله منجما :
أولها : تثبيت فؤاد الرسول بموالاة الوحى بالقرآن فإن موالاته فيها أنس للنبى صلىاللهعليهوسلم ، وتثبيت لعزيمته ، وتأييد مستمر له ، فيقوم بحق الدعوة بالجهاد فى سبيلها ، وإذا كان المرء يستأنس بوليه إذا والى الاتصال به فكيف لا يستأنس رسول الله تعالى بلقاء الروح الأمين الذى يجيئه بكلام رب العالمين فى موالاة مستمرة.
ثانيها : أن تثبيت الفؤاد بنزول القرآن يكون بحفظ ما ينزل عليه جزءا جزءا ؛ ذلك أن هذا القرآن نزل ليحفظ فى الأجيال كلها جيلا بعد جيل ، وما يحفظ فى الصدور لا يعتريه التغيير ولا التبديل ، وما يكتب فى السطور قد يعتريه المحو والإثبات والتحريف والتصحيف ، ولأن الله تعالى كتب للقرآن آن يحفظ ، كان يحفظ جزءا جزءا ، وكان ينزل مجزأ ليسهل ذلك الحفظ ، وكان النبى صلىاللهعليهوسلم حريصا على أن يحفظه عند نزوله ، فكان يردد ما يتلوه عليه جبريل ويتعجل حفظه ، وقد قال الله سبحانه وتعالى لنبيه فى ذلك : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (١٩) [القيامة : ١٦ ـ ١٩]. وترى من هذا النص حرص النبى صلىاللهعليهوسلم على أن يحفظ ما يوحى إليه ، فيحرك به لسانه مستعجلا الحفظ فينبهه الله تعالى إلى أنه يتولى جمعه وإقراءه له ، وأنه مبينه وحافظه ، كما قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩) [الحجر : ٩].
الأمر الثالث : هو ترتيل القرآن بتعليم تلاوته ، وإن هذا النص يستفاد منه أن تلاوة القرآن وطريقة ترتيله هما من تعليم الله تعالى ، إذ إنه سبحانه وتعالى ينسب الترتيل إليه تعالت قدرته وكلماته ، وعظم بيانه. فنحن بقراءتنا وترتيلنا إن أحكمناه إنما نتبع ما علم الله تعالى نبيه من ترتيل محكم جاء به التنزيل ، وأمر به النبى صلىاللهعليهوسلم فى قوله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (٤) [المزمل : ٤] ، وما كان تعليم هذا الترتيل المنزل من عند الله تعالى ليتوافر إذا لم ينزل القرآن منجما ، فلو نزل جملة واحدة ما تمكن النبى صلىاللهعليهوسلم من تعلم الترتيل ، ولو علمه الله تعالى بغير تنجيمه ما كان فى الإمكان أن يعلمه قومه وهم حملته إلى الأجيال من بعده.
هذا ما يستفاد من النص الكريم المتلو ، وعبارته السامية فيه واضحة بينة تشرق بمعانيه العالية الهادية الموجهة المرشدة.