وهناك سبب آخر لنزول القرآن منجما نلمسه من حال العرب ومن شئونهم ؛ ذلك أن العرب كانوا أمة أمية ، والكتابة فيهم ليست رائجة ، بل يندر فيهم من يعرفها ، وأندر منه من يتقنها ، فما كان فى استطاعتهم أن يكتبوا القرآن كله إذا نزل جملة واحدة ، إذ يكون بسوره وآياته عسيرا عليهم أن يكتبوه ، وإن كتبوه لا يعدموا الخطأ والتصحيف والتحريف.
ولقد كان من فائدة إنزال القرآن منجما أنه كان ينزل لمناسبات ولأحداث فيكون فى هذه الأحداث بعض البيان لأحكامه والمبين الأول هو النبى صلىاللهعليهوسلم كما قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤].
المكى والمدنى
٨ ـ كان نزول القرآن منجما سببا فى أن بعضه نزل بمكة وبعضه نزل بالمدينة ، فكان منه المكى ومنه المدنى ، فالمكى ما نزل قبل الهجرة ، والمدنى ما نزل بعد الهجرة ، فما نزل بعد الهجرة ولو بمكة يسمى مدنيا ، وما نزل قبل الهجرة يسمى مكيا ، فالتقييم زمانى ، وليس بمكانى ، ليست العبرة بمكان النزول إنما العبرة فيه بزمانه.
والآيات المكية فيها بيان العقيدة الإسلامية ، وبطلان عبادة الأوثان ومجادلة المشركين والدعوة إلى التوحيد ، ومخاطبة العرب ، وفيها قصص الأنبياء الذين جاءوا إلى بلاد العرب ولهم آثار فى أجزائها تنادى بما صنع أقوامهم ، وما أصابهم الله تعالى بكفرهم من حاصب ، ومن خسف جعل عالى ديارهم سافلها ، ومن ريح صرصر عاتية.
ولم يكن فى الآيات المكية أحكام للمعاملات ، وإن كان فيها إشارات إلى المحرمات كالخمر والربا ، فقد قال تعالى مشيرا إلى أن الخمر أمر غير حسن : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٦٧) [النحل : ٦٧]. فإن هذا النص الكريم يشير إلى أن الخمر ليست أمرا حسنا ، لأنه سبحانه وتعالى جعلها مقابلة للأمر الحسن ، ولا يقابل الحسن إلا القبيح ، أو على الأقل الأمر غير الحسن.
ولقد جاء أيضا فى سورة الروم ما يشير إلى أن الربا أمر غير مستحسن فقد قال تعالى فى سورة الروم : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (٣٩) [الروم : ٣٩].
وإن عدم وجود أحكام للمعاملات فى مكة سببه أن الدولة التى كانت قائمة كانت دولة شرك ، وأن من المستحيل أن تنفذ أحكام المعاملات الإسلامية فى ظلها ، وكان