الحسن ، وهل ترى الروعة التى كنت تراها؟ فإن قلت : فما السبب فى أنه كان «اشتعل» إذا استعير للشيب على هذا الوجه كان له الفضل ، ولم تأت بالمزية من الوجه الآخر فما وجه هذه البينونة؟ إن السبب أنه يفيد مع لمعان الشيب فى الرأس ـ الذى هو أصل المعنى ـ الشمول ، وأنه قد شاع فيه ، وأخذه من كل نواحيه ، وأنه قد استقر به وعم جملته ، حتى لم يبق من السواد شىء ، أو لم يبق منه إلا ما لا يعتد به ، وهذا ما لا يكون إذا قيل : اشتعل شيب الرأس ، أو الشيب فى الرأس ، بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة».
وقد أجاد عبد القاهر فى بيان وجه البلاغة فى الاستعارة مع أردافها من مجموع الكلام ، وإذا كانت هى فى ذاتها ، تجمل القول ، فإن سر الإعجاز فيها ، وفى مجموع العبارات.
وقد ضرب الإمام عبد القاهر مثلا آخر مقاربا لقوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) وهو قوله تعالى : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] فقال رضى الله تبارك وتعالى عنه فى بيان أن التمييز بعد التعميم ولو من غير استعارة بلاغة معجزة.
«ونظير هذا فى التنزيل قوله عزوجل : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) التفجير للعيون فى المعنى واقع على الأرض فى اللفظ كما أسند هناك الاشتعال إلى الرأس ، وقد حصل بذلك من معنى الشمول هاهنا ، وذلك أنه قد أفاد أن الأرض قد صارت كلها عيونا وأن الماء قد كان يفور من كل مكان منها ، ولو أجرى اللفظ على ظاهره فقيل ، وفجرنا عيون الأرض ، أو العيون فى الأرض ، لم يفد ذلك ولم يدل عليه ، ولكن المفهوم منه أن الماء قد فار من عيون متفرقة فى الأرض ، وانبجس من أماكن منها».
وهكذا يتبين من ذلك الكلام القيم أننا إن كنا قد ذكرنا التشبيه والمجاز والكناية فليس الإعجاز لها وحدها ، بل لها مع مجموع الألفاظ والأسلوب وتناسق العبارات ، فمن كل ذلك يتكون إعجاز الذكر الحكيم.
الكنايات فى القرآن
١١٧ ـ قد تكلمنا فى التشبيه والاستعارات ، وسائر أوجه المجاز بكلام مجمل ، واقتبسنا شواهد من القرآن ، وإن لم تكن كثيرة فإنها منيرة ، وإن لم يكن فيها استقراء ففيها غناء.
ولكن لم نتعرض للكنايات فى القرآن بقدر كاف إذ كانت الكنايات كما تدل عبارات اللغويين وعلماء البلاغة هى الدلالة على اللازم عادة أو عقلا بذكر الملزوم ، فكثرة الرماد كما مثلوا يلزمها كثرة الضيفان ، وطول النجاد يلزمه طول القامة ، فإن