ولو حاولنا أن نعرف سر ذلك النغم وتلك الموسيقى ، وذلك التآخى لعجزنا أن نعرفه على وجه التحقيق ، إنما نعرف تأثيره فى نفوسنا إذا تهدت ووصلت إلى ذوق الأسلوب ، وذلك أمر يدرك لذوى الألباب ، ولا يعرف سره.
وإن النظم القرآنى فى تأليفه كله له رنين الموسيقى ، لقد جرى العرب كتابا وشعراء وخطباء على أن يجدوا النغم فى فاصلة سجع أو قافية شعر ، لكن نظم القرآن ونغمه ينبعث من كلماته وحروفه وأسلوبه ، فحروفه متآخية فى كلماته ، لها موسيقى ونغم تهتز لها المشاعر ، وتسكن عندها ، وتطمئن النفوس ، والكلمات فى تآخيها فى العبارات تنتج موسيقى ونغما يختص به القرآن وحده ، وأن أى كلام مهما يكن علو صاحبه فى البيان لا بد أن يكون متخلفا عن القرآن لا يمكن أن يلحق به ، لأنه كلام الله تعالى وفوق طاقة البشر.
ويعجبنى ما كتبه فى هذا الكاتب المؤمن مصطفى صادق الرافعى إذ يقول : «كان العرب يترسلون فى منطقهم كما اتفق لهم ، لا يراعون أكثر من تكييف الصوت دون تكييف الحروف التى هى مادة الصوت إلى أن يتفق من هذا قطع فى كلامهم تفى بطبيعة الغرض الذى تكون فيه ، أو بما تعمّل لها المتكلم على نمط من النظم الموسيقى إن لم يكن فى الغاية ، ففيه قرب من هذه الغاية».
فلما قرئ عليهم القرآن رأوا حروفه ، فى كلماته ، وكلماته فى جمله ألحانا لغوية رائعة ، كأنها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة ، قراءتها هى توقيعها ، فلم يفتهم هذا المعنى ، وأنه أمر لا قبل لهم به ، وكان ذلك أبين فى عجزهم ، حتى أن من عارضه منهم كمسيلمة جنح فى خرافاته إلى ما حسبه نظما موسيقيا ، وطوى عما وراء ذلك من التصرف فى اللغة وأساليبها ومحاسنها ودقائق التركيب البيانى ، كأنما فطن إلى أن الصدمة الأولى للنفس العربية ، إنما هى فى أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عداها ، وليس يتفق ذلك فى شىء من كلام العرب إلا أن يكون وزنا من الشعر أو السجع».
التلاؤم
١٢٢ ـ إن المعنى الذى ذكره المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعى هو ما سماه الرمانى بالتلاؤم ، أى تكون نغمات الحروف متلائمة بعضها مع بعض فى الكلمة ، والكلمات يتألف نغمها بعضها مع بعض فى الجمل ، والجمل يتألف بعضها مع بعض فى القول كله ، كما نرى فى القرآن الكريم ، فإن الآية تتضافر ألفاظها فى نغم هادئ إن كانت الآية فى تبشير ، أو داعية إلى التأمل والتفكير إن كانت فى عظة ، وتتلاءم نغماتها قوية إذا كانت فى إنذار ، أو فى وصف عذاب ، اقرأ قوله تعالى : (الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا