فى النغم ، اقرأ قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (١٦). [الغاشية : ١ ـ ١٦]
تجد فى هذه النصوص وصفين لأمرين متباينين ، أولهما وصف الجحيم وأصلها وتجد فيه الألفاظ والمعانى والنغم ، كله يلقى بالألم فى النفس والخوف من العذاب الشديد ، والمصير العتيد. والثانى وصف النعيم وأهله ، وترى فيها الراحة ، والاطمئنان والقرار ، والسعادة ، ويشترك فى هذا ألفاظ وجمل ومعان ، ونغم حتى كأنك ترى لا تسمع.
١٢٣ ـ وإن كان الكلام الذى يتسم بالبلاغة لا بد أن يكون فيه التلاؤم ، والتلاؤم ضد التنافر ، وعرفه الرمانى ، فقال : «التلاؤم نقيض التنافر ، وهو تعديل الحروف فى التأليف ، والتأليف متنافر ، ومتلائم فى الطبقة الوسطى ، ومتلائم فى الطبقة العليا ، ثم يضرب الأمثلة على التنافر الذى هو ضد التلاؤم ، ثم يذكر أن التلاؤم الذى يكون فى الدرجة الوسطى هو التلاؤم الذى يكون فى كلام البلغاء وأهل الفصاحة من الناس ، أما التلاؤم فى الطبقة العليا ، فإنه لا يكون إلا فى القرآن الكريم ، ويقول فى ذلك رضى الله عنه.
«والمتلائم فى الطبقة العليا فى القرآن كله وذلك بين لمن تأمله ، والفرق بينه وبين غيره من الكلام فى تلاؤم الحروف على نحو الفرق بين المتنافر والمتلائم فى الطبقة الوسطى ، وبعض الناس أشد إحساسا بذلك وفطنة له من بعض ، كما أن بعضهم أشد إحساسا بتمييز الموزون فى الشعر من المكسور ، واختلاف الناس فى ذلك من جهة الطباع كاختلافهم فى الصور والأخلاق ، والسبب فى ذلك تعديل الحروف فى التأليف فكلما كان أعدل كان أشد تلاؤما».
ويستفاد من هذا الكلام أنه يرجع السبب فى علو التلاؤم فى القرآن كله إلى التعديل بين الحروف بأن تكون الحروف متلاقية فى النطق ، فليس فيها تباعد فى المخارج شديد ، بحيث يصعب الانتقال من مخرج إلى مخرج ، ولا التقارب الشديد الذى يجعل بعض الحروف يندغم فى بعض.
وإن ذلك ينطبق على النطق ، فالتعديل فى المخارج بالبعد عن الاختلاف الشديد أو القرب الشديد ، إنما هو يتعلق بالنطق وإنك بلا ريب تجد ألفاظ القرآن الكريم وجمله بعيدة عن هذا كل البعد ، بل إنه المثل الأعلى فى ذلك.