وإن التلاؤم فى ألفاظ القرآن الكريم وجمله وآياته ومواضع الوقف فيه ليس فى المخارج فقط ، بل هو فيما هو أعلى من ذلك ، إنما هو فى النغم ، وجرس القول وموسيقاه ، فلا تجد حرفا ينشز فى موسيقاه عن أخيه ، ولا الكلمة عن أختها ، ولا الجملة عن لاحقتها ، والآية كلها تكون مؤتلفة النغم فى الغرض الذى سيقت له ، فإن كان إنذارا كان النغم إرعادا ، وإن كان تبشيرا كان نسيما ، وإن كان عظة كان تنبيها ، وإن كان تفكيرا ، كان توجيها لافتا عما سواه ، وهكذا.
وقد قال الرمانى : «والتلاؤم فى التعديل من غير بعد شديد أو قرب شديد ، وذلك يظهر بسهولته على اللسان ، وحسنه فى الأسماع ، وتقبله فى الطباع ، فإذا انضاف إلى ذلك حسن البيان فى صحة البرهان فى أعلى الطبقات ظهر الإعجاز للجيد الطباع البصير بجواهر الكلام ، كما تظهر له أعلى طبقات الشعر من أدناها إذا تفاوت ما بينها. وقد عم التحدى للجميع لرفع الإشكال ، وجاء على الاعتبار بأنه لا تقع المعارضة لأجل الإعجاز فقال عزوجل : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٣) [البقرة : ٢٣] ، ثم قال سبحانه : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة : ٢٤] ، فقطع بأنهم لن يفعلوا ، وقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء : ٨٨] ، ولما تعللوا بالعلم والمعانى التى فيه قال عز من قائل : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣] فقد قامت الحجة على العربى والعجمى».
وإن هذا يدل على أن العجز لم يكن لأجل المعانى فقط ، وإن كانت معجزة فى ذاتها ، ولكن التحدى كان بالألفاظ والأساليب ، لأنهم أمة بليغة ولكنها أمية.
وقد أدركوا من أول الأمر ما فى الألفاظ من جمال ، وما فى تأليف القول من نسق وانسجام ، وما فى جرسها من نغم ، ولما تورط بعض منهم فى أن يحاكوا القرآن ، لم يكن اتجاههم إلا إلى النغم أرادوا محاكاته فى نغمه فجاء كلامهم غثا ، ليس فيه نغم ولكن فيه ما يدل على إدراك سقيم.
الفواصل
١٢٤ ـ يعرف الرمانى الفواصل بأنها : حروف متشابكة فى المقاطع توجب حسن إفهام المعانى ، ويقول : «الفواصل بلاغة والأسجاع عيب ؛ وذلك أن الفواصل تابعة للمعانى ، وأما الأسجاع ، فالمعانى تابعة لها ، وهو قلب ما توجبه الحكمة فى الدلالة ، إذ كان الغرض الذى هو حكمة إنما هو الإبانة عن المعانى التى إليها الحاجة ماسة ، فإذا كانت المشاكلة موصلة إليه فهو بلاغة ، وإذا كانت المشاكلة على خلاف ذلك فهو عيب