ولكنة ، لأنه تكلف من غير الوجه الذى توجبه الحكمة ، ومثله مثل من رصع تاجا ، ثم ألبسه زنجيا ساقطا ، أو نظم قلادة ، ثم ألبسها كلبا ، وقبح ذلك وعيبه بين لمن له أدنى فهم ، فمن ذلك ما يحكى عن بعض الكهان : «والأرض والسماء ، والغراب الواقعة بنقعاء ، لقد نفر المجد إلى العشراء» ، وهكذا نجد الرمانى يفرق بين السجع والفاصلة ، بأن الفاصلة بلاغة ، وأن السجع عيب ، وأن الفواصل الألفاظ فيها تتبع المعانى ، والأسجاع الألفاظ فيها مقصودة ، والمعانى تابعة ، ويظهر أنه لم يكن بين يديه إلا سجع الكهان ، ولكن أكلّ السجع كذلك ، وألا يوجد سجع يزيد المعانى قوة ، وتكون فيه المعانى هى المتبوعة ، وليست تابعة ، وأن السجع يزيد المعانى ، ويعطيها قوة ويسهل قبولها ، ويكون بابا من أبواب تأكيدها.
ولذلك خالف الرمانى فى ذلك كلام الذين كتبوا البلاغة من بعد ، وقبل أن نخوض فيما قالوه ، نقرر أن الفرق ، هو بين الفواصل والسجع ، إن الفواصل معناها أن تكون مقاطع الكلام متقاربة فى الحروف كالنون والميم فى قوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) ، وأما السجع فهو أن تكون المقاطع متحدة فى الحروف ، ونلاحظ أن الرمانى متأثر فى فكرة السجع بسجع الكهان الذى قصد به اتحاد الحروف من غير نظر إلى المعنى ، ومن غير أن تكون المعانى فى ذاتها ذات قيمة ، بل لا يقصدون ، إلا إلى رص الكلمات متحرين اتحاد المقاطع.
وإنه عند التحقيق نجد أن الفواصل أعم من السجع ، فهى إما سجع تتحد فيه حروف المقاطع ، أو مجرد فواصل تتقارب فيها حروف المقاطع ، وذلك رأى ابن سنان فى كتابه سر الفصاحة (١) فهو يقول : الفواصل على ضربين : ضرب يكون سجعا ، وهو ما تماثلت فيه حروفه فى المقاطع ، وضرب لا يكون سجعا ، وهو ما تقابلت حروفه فى المقاطع ، ولم تتماثل. ولا يخلو كل واحد من هذين القسمين من أنه يأتى سهلا طوعا وتابعا للمعانى ، وبالضد من ذلك حين يكون متكلفا يتبعه المعنى ، فإن كان من القسم الأول فهو المحمود الدال على الفصاحة ، وحسن البيان ، وإن كان الثانى فهو مذموم.
وإن هذا الكلام معناه أنه ليس فى كل فاصلة تكون الألفاظ تابعة للمعانى ، فيكون الحسن والإفصاح والإحسان ، وليس فى كل سجع تكون المعانى تابعة للألفاظ ، فيكون التكلف ، بل التعميم بالحسن فى غير السجع والقبح فى السجع هو الخطأ ، ولا شك أن فواصل القرآن كلها من البليغ الذى تكون فيه الألفاظ تابعة للمعانى.
وأنه بلا ريب فى القرآن مقاطع تتحد فيها الحروف ، ومقاطع أيضا لا تتحد فيها الحروف ، ولكن تتقارب ، ومن المقاطع التى تتحد فيها الحروف قوله تعالى فى سورة
__________________
(١) سر الفصاحة ص ١٥٦.