وذكر هنا قتله نفسا ، وطوى ذكر ما كان منه عند ما بلغ رشده ، ورؤيته رجلا من شيعته يستغيثه فأغاثه وقتل الذى هو من عدوه ، ثم طوى سبحانه وتعالى خبر الائتمار به ليقتله المتآمرون ، ثم خروجه ، والتقاؤه بابنتى شعيب وسقيه لهما ، ومجيء إحداهما تمشى على استحياء ، ثم زواجه ، على أن يكون المهر عمله ثمانى حجج أو عشرا ، ثم إيناسه بالنار ، ثم مكالمة الله تعالى ، وقد ذكر كله فى قوله تعالى : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٤١) [طه : ٤٠ ، ٤١].
وهكذا نجد أن الإطناب لا يكون بكثرة الألفاظ فقط ، بل بكثرتها مع كثرة المعنى ، والإيجاز لا يكون بكثرة المعانى فقط ، بل لا بد أن يكون فى الألفاظ دلالة واضحة على المعانى الكثيرة ، أو أن تكون هذه المعانى ذكرت فى مقام آخر من القرآن ، فإن القرآن الكريم كل كامل لا تنقص معانيه ، ولا تستغلق على قارئيه ، وقد يحذف القول فى مكان ، لأنه يفهم بدلالة الأولى فى مكان آخر.
وبين أيدينا فى هذا الباب آيات فى الميراث.
لقد قال تعالى فى ميراث الأولاد : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ). [النساء : ١١]
ونرى هنا أن النص الكريم ذكر أن ميراث الواحدة إذا انفردت النصف ، وميراث الأكثر من اثنتين الثلثان ، ولم يذكر الميراث إذا كانتا اثنتين فقط ، ولم تزيدا عن اثنتين ، أيكون النصف أم يكون الثلثين؟
لقد تبين ذلك فى ميراث الأخوات ، فقد قال تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٧٦) [النساء : ١٧٦].
وهنا نجد الإيجاز المحكم ، فنجد فى الآية الأولى يحذف ما يفهم بالأولى من الآية الثانية ، ويحذف من الثانية كذلك ، فقد ذكرت الآية حكم ما فوق الاثنتين ، ولم تذكر حكم الاثنتين ، وهو ما بين فى الآية الأخرى لأنها ذكرت أن ميراث البنتين هو الثلثان ، وإذا كانت البنت أقرب إلى الميت من الأخت فيكون ميراث البنتين بدلالة الأولى ، لأنه إذا كانت الأختان وهما أبعد تأخذان الثلثين ، فأولى أن تأخذهما البنتان الاثنتان ، لأنهما أقرب ، فلا يمكن أن يكون نصيبهن أقل من الثلثين.
والآية الأولى نصت على أن الأكثر من بنتين تأخذان الثلثين ، فلا زيادة عن الثلثين ، فالأولى بألا يزيد عن الثلثين نصيب الأكثر من أختين لأن الأكثر من اثنتين من ذوى القرابة القريبة لا يزيد عن الثلثين ، فأولى ألا تزيد عن ذلك ذوات القرابة الأبعد.