ومع هذا الترتيب الموحى به الذى لم يكن على حسب النزول نجد السورة كلها مترابطة الأجزاء متصلة ، يأخذ بعضها بحجز بعض فى نسق بيانى رائع ، وكل آية مرتبطة برباط معنوى وبيانى ، فالآية تتبع ما قبلها ، لا فى الموضوع ولكن فى نظام يشبه تداعى المعانى ، فالآيات تثير فى النفس المؤمنة المتبعة خواطر تجىء التى تليها لإشباعها وكأنها تجىء فى وقت الحاجة إليها ، فيكون التناسق القرآنى فى الألفاظ والأنغام والفواصل والمعانى. وكل ذلك من أسرار الإعجاز الذى لا يمكن أن يكون إلا إذا كان القرآن كله من عند الله العزيز الحكيم القادر على كل شىء الذى اختار القرآن معجزة صفيه خاتم الأنبياء محمد صلىاللهعليهوسلم.
القصار وتيسير الحفظ :
١٣٦ ـ يأمرنا الله تعالى بأن نحفظ ما تيسر من القرآن ، لأنه سبحانه وتعالى قال : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) وأنه سهل سبحانه وتعالى علينا أن نحفظ المتيسر حفظه من القرآن ، فكانت تلك السور القصار الموجزة فى ألفاظها الغزيزة المعانى فى مرادها ، وهذا المعنى ذكره المرحوم الأستاذ مصطفى صادق الرافعى رضى الله عنه فى كتابه إعجاز القرآن ، ولنترك الكلمة له فقد قال : «إن لهذه السور القصار لأمرا ، وإن لها فى القرآن لحكمة ، من أعجب ما ينتهى إليه التأمل حتى لا يقع من النفس إلا موقع الأدلة الإلهية المعجزة ، فهى لم تنزل متتابعة فى نسق واحد على هذا الترتيب الذى نراه فى المصحف ، إذ لم يكن أول ما نزل من القرآن ولا آخره : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (١) ثم هى (أى القصار من السور) بجملتها وعلى إحصائها لا تبلغ من القرآن أكثر من جزء والقرآن كله ثلاثون جزءا ، وهو يتسع من بعدها قليلا قليلا ، حتى ينتهى إلى الطول ، فقد علم الله أن كتابه سيثبت الدهر كله على هذا الترتيب المتداول ، فيسره للحفظ بأسباب كثيرة أظهرها فى المنفعة ، وأولها فى المنزلة ، هذه السور التى تخرج من الكلمات إلى الآيات القليلة ، والتى هى مع ذلك أكثر ما تجىء آياتها على فاصلة واحدة أو فواصل قليلة ، لا يضيق بها نفس الطفل الصغير. وهى تتماسك فى ذاكرته بهذه الفواصل التى تأتى على حرف واحد أو حرفين ، أو حروف قليلة متقاربة فلا يستظهر الطفل بعض هذه السور حتى يلتئم نظم القرآن على لسانه ويثبت أثره فى نفسه ، فلا يكون بعد إلا أن يمر فيه مرا ، وهو كلما تقدم وجده أسهل عليه ، ووجد له خصائص تعينه على الحفظ وعلى إثبات ما يحفظ. فهذا معنى قوله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء : ٨٢] وهى لعمر الله رحمة وأى رحمة.
وإذا أردت أن تبلغ عجبا من هذا ، فتأمل آخر سورة فى القرآن وأول ما يحفظه الأطفال (أى بعد الفاتحة) وهى سورة (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (١) وانظر كيف جاءت