إن هذه القصة واقعية ، وليس فى سياق القول ما يدل على أنها تصويرية ، والأصل أن تكون حقيقية ، فلا بد أن أجزاءها قصة واقعة ، وليست مجرد مثل تصويرى ، وهذه القصة معها دليل واقعى على البعث والنشور ، وأنه فى قدرة الله تعالى إعادة الموتى ، فمن أنشأ الكون يحيى الموتى ، وأننا سنموت كما ننام ، ونبعث كما نستيقظ ، فهو مثل واقعى ، لبيان ـ كيف يحيى الله الموتى ـ فقد مات الرجل مائة عام ، ثم أحياه الله ، ورأى طعامه لم يتغير ، ورأى حماره حتى حسب أنه نام يوما أو بعض يوم ، والله على كل شىء قدير.
أسلوب جدل القرآن
١٤٩ ـ ذكرنا فيما أسلفنا من قول بعض ما سلكه القرآن ، وما يعمد إليه من استدلال وما يتخذه من ينابيع ، وقد كانت لإثبات الحقائق فى العقيدة والأحكام وما يقربها به إلى العقول حتى لا يكون موضع ارتياب لمرتاب ، يزيل الريب بالحقائق ، ويبدد الأوهام بالأدلة التى تنبه إلى حقائق الوجود.
وما كان ذلك للجدل من المخالفين من مشركين وأهل كتاب فقط ، بل كان لإثبات الحقائق فى ذاتها ، من غير محاجة مع منكر ، ولا مجادلة مع جاحد ، والآن نتكلم فى جدله مع المجادلين ، وقطعه الطريق على الجاحدين.
وقبل ذلك نتكلم فى مقام الاستدلال القرآنى ، سواء أكان فى مقام تثبيت وبيان أم فى مقام جدل مع قوم خصمين.
ولقد لاحظنا فى أدلة القرآن أنها قريبة التناول فى الإدراك لكل الناس ، يفهمها الخاصة ويفهمها العامة ، وأن تفاوت الفهم بمقدار الإدراك ، وسعة الأفق ، وهى واضحة للجميع ، ولقد قرر بذلك ابن رشد الفيلسوف الفقيه فى كتابه فصل المقال ، فقد قسم الطرق لإثبات صدق القضايا والتصديق بها إلى عامة لأكثر الناس بحيث يكون التصديق بها من كل الناس ما داموا قد سلمت عقولهم من الآفات ، ومنها ما هى خاصة بأقل الناس وهى البرهانية ، وجعل الأدلة التى تعم الناس الأدلة الخطابية وتقوم على إثبات الحق بأدلة قطعية ، أو أدلة ظنية ، ولكن بكثير منها ومقارنتها ، وإثارة الخيال يجعل السامعين يقتنعون ، ويجزمون. وإذا كانت الأدلة فى ذاتها مجردة عما أحيط بها من عرض ، وأسلوب بيانى وإلقاء مؤثر ، وإثارة للأخيلة الموجهة ، تكون ظنية ، ولكن آثارها قطعية ، كما نرى فى آثار البلغاء من الخطباء ، والخطابية أعم أنواع الاستدلال فى البيان ، وأكثرها إنتاجا ، ودونها فى العموم الجدلية ، وهى ما يكون الاستدلال فيها مأخوذا مما يسوقه الخصم من الحجج ، وهى تعتمد على قوة الاستدلال على الخصم ، ولأن الفلج على الخصوم لا يكون أمرا مستورا ، بل يكون أمرا له صفة الشياع بين