مسلك القرآن فى سوق الأدلة
١٥٣ ـ قد شرحنا من قبل الأدلة الخطابية والبرهانية والجدلية ، وقد أشرنا إلى أن أسلوب القرآن فوق هذا ، والآن نوضح ما أشرنا إليه من قبل فنذكر بالعبارة الواضحة ، ما ذكرناه بالإشارة اللائحة.
إن أسلوب القرآن أسمى من الخطابة ، وأسمى من منطق أرسطو ، ومن لف لفه ، تراه قد اعتمد فى مسالكه على الأمر المحسوس أو الأمور البدهية التى لا يمترى فيها عاقل ، وليس فيه قيد من قيود الأشكال المنطقية من غير أن يخل بدقة التصوير ، وقوة الاستدلال ، وصدق كل ما اشتمل عليه من مقدمات ونتائج مع أحكام العقل.
وإنك لترى بعض أوصاف الأسلوب الخطابى ، قد أتى فيها بالمثل الكامل فيه ، وهو أعلى من أن يوصف بأنه جاء على منهاج من مناهج الخطابة ، وفيه تصريف القول الذى يلقى بجدة فى نفس القارئ والسامع ، فتصريف فنون القول من إيجاز غير مخل ، وحذف كلمات أعلن الأسلوب وجودها ، وغزارة فى المعانى مع قلة فى الألفاظ وإطناب مبين ، بحيث لو حذفت كلمة لاختل بنيان القول ، إذ إن الكلام القرآنى بعضه مع بعض كالبنيان النورانى المرصوص ، ولكل كلمة إشعاع مشرق فيه بحيث لو لم تكن ، يكون جزءا ناقصا من الأطياف للآيات القرآنية.
ثم من قصص حوى أقوى الأدلة فى ذات القصة وما حوت ، وفى الأدلة التى سيقت فى بيان الأنبياء السابقين لرسالاتهم ، ومجادلة المخالفين والمناوئين.
ومهما يكن من قول فى استدلالات القرآن الكريم ، فإن له مناهج فى الاستدلال تعلو على براهين المناطقة ، والأخيلة المثيرة للإقناع ، والأدلة الخطابية.
١٥٤ ـ ونستطيع أن نذكر بعض مناحى القرآن فى الاستدلال من غير إحصاء ، بل نذكر بعضها ، وبعضها ينبئ عن غيره.
ومن ذلك الأقيسة الإضمارية ، وهى الأقيسة التى تحذف فيها إحدى المقدمات ، مع وجود ما ينبئ عن المحذوف ، فهو محذوف معلوم مطوى فى الكلام منوى فيه.
وهذا الحذف يكثر فى الاستدلال الخطابى ، بل يقول ابن سينا فى الشفاء : «الخطابة معولة على الضمير والتمثيل ، والضمير هو القياس الإضمارى ، والتمثيل هو إلحاق أمر بأمر لجامع بينهما» ويسمى فى عرف الفقهاء ، قياسا فقهيا ، بينما هو فى عرف المناطقة تمثيل ، لأن فيه مشابهة بين أمرين.
وقد يقول قائل : إنك قررت أن القرآن أعلى فى إقناعه واستدلاله من الخطابة والمنطق والشعر ، ومع ذلك تقرر أنه ينهج منهاج الخطابة فى الاستدلال!.