ومع هذا القياس نجد الإضمار للمقدمات ، وإبراز أوضحها الذى يومئ إلى ما وراءها ، فما يضمره من المقدمات هو المختفى المعلوم ، والظاهر المكتوم.
السبر والتقسيم :
١٥٧ ـ السبر والتقسيم باب من أبواب الاستدلال الكاشف للحقيقة ، الهادى إليها ، وهو أيضا من أبواب الجدل ، يتخذه المجادل سبيلا لإبطال دعوى من يجادله ، بأن يذكر أقسام الموضوع الذى يجادل فيه ، ويبين أنه ليس فى أحد هذه الأقسام خاصة تسوغ قبول الدعوى فيه ، فيبطل دعوى الخصم.
وقد ذكر السيوطى أن من أمثلته فى القرآن الكريم قوله تعالى : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١٤٤). [الأنعام : ١٤٣ ، ١٤٤]
وبيّن السيوطى وجه الاستدلال فقال : «إن الكفار لما حرموا ذكور الأنعام تارة ، وإناثها أخرى رد الله تعالى عليهم ذلك بطريق السبر والتقسيم فذكر تعالى : أن الله خلق الخلق مما ذكر زوجين ، ذكر وأنثى ، ثم جاء تحريم ما ذكرتم عندكم. ما علته؟ لا يخلو إما أن يكون من جهة الذكورة أو الأنوثة ، أو اشتمال الرحم الشامل لهما ، أو لا يدرى له علة ، وهو التعبدى ، بأن يأخذ ذلك عن الله تعالى ، والأخذ عن الله تعالى إما بوحى وإرسال رسول أو سماع كلامه ومشاهدة تلقى ذلك عنه ، وهو معنى قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهذا) ، فهذه وجوه التحريم ، ثم لا تخرج عن واحدة منها ، والأول يلزم عليه أن يكون جميع الذكور حراما ، والثانى يلزم عليه أن يكون جميع الإناث حراما ، والثالث يلزم عليه تحريم الصنفين معا ، فبطل ما فعلوه من تحريم بعض فى حالة ، وبعض فى حالة ، لأن العلة على ما ذكر تقتضى إطلاق التحريم والأخذ عن الله بلا واسطة (وحى) باطل ، ولم يدعوه ، وبواسطة رسول كذلك ، لأنه لم يأت إليهم رسول قبل النبى صلىاللهعليهوسلم ، وإذا بطل جميع ذلك ثبت المدعى وهو أن ما قالوه افتراء على الله تعالى وضلال» (١).
__________________
(١) الإتقان فى علوم القرآن.