لأشكال البرهان ، وكانت مع ذلك أعلى من الخطابة ، وإن كان بيانه المثل الأعلى الذى لا يستطيع أن يجاريه الخطباء.
ولو أن المتكلمين الذين عنوا بإثبات العقائد والجدل فيها سلكوا مسلك القرآن ، وساروا فى سمته لكان علمهم أكثر فائدة ، وأدنى جنى ، وأينع ثمارا ، ولكنهم سلكوا مسلك المنطق وقيوده ، والبرهان وأشكاله ، فكان علمهم للخاصة من غير أن يفيد العامة ، فإن العامة يدركون دقائق القرآن على قدر عقولهم ، ولا يدركون شيئا من أشكال الأقيسة.
وقد وازن الغزالى فى كتابه (إلجام العوام عن علم الكلام) بين أدلة القرآن وطريقة المتكلمين ، فقال رضى الله عنه : أدلة القرآن مثل الغذاء ، ينتفع به كل إنسان ، وأدلة المتكلمين مثل الدواء ينتفع به آحاد الناس ، ويستضر به الأكثرون ، بل إن أدلة القرآن كالماء الذى ينتفع به الصبى الرضيع والرجل القوى ، وسائر الأدلة كالأطعمة التى ينتفع بها الأقوياء مرة ، ويمرضون بها أخرى ، ولا ينتفع بها الصبيان أصلا.
وفى الحق أن الناس لو شغلوا بدراسة القرآن ، وما فيه من استدلال لينهجوا على نهجه ، ويسيروا فى طريقه ، لكان لهم من ذلك علم كثير. فإن القرآن قد اشتمل على مناهج فى الاستدلال والجدل والتأثير تتكشف عن أدق نواميس النفس الإنسانية. وتبين شيئا كثيرا من أحوال الجماعات النفسية والفكرية ، وفيها الطب لأدوائها ، والعلاج الناجع لأمراضها ، والدواء الشافى لعللها وأسقامها.
وفى مناهجه البيانية المثل الأعلى للكلام النافذ إلى القلوب والحجج الدامغة. ومعتبر ذلك بأثره فى المشركين وأثره فى المسلمين الأولين.
وقد ذكرنا فيما مضى من قولنا أن كل من كان يسمعه من المشركين يناله منه قبس يهتدى به إن آمن ، وإن استمر على جحوده أطفأ الله النور فى قلبه ، وطمس الله على بصيرته ، وكان على ريب فى الأمر ، وتردد ، فكان كل من داناه منهم مس نوره قلبه ، ونال أثره وجدانه ، حتى لقد تناهى زعماؤهم عن سماعه ، لما رأوه من أثره فى قلب كل من سمعه.
وقد كان من أثر القرآن فى المؤمنين الأولين أن عكفوا عليه يرتلونه ، ويتفهمونه ، ويتعرفون معانيه ومراميه ، وجعلوه معلمهم الأول ، ومرجعهم إذا اختلفوا ، ومنهل عقائدهم ، ويأخذون منه ما يقوى إيمانهم ، ويدفع الشبهات عنهم ويثبت يقينهم ، ولم يعرفوا حجة مع السنة سواه ، ولا محجة غير طريقه وهديه ، به يجادلون ، وعن هديه يصدرون ، فاستقام أمرهم ، وحكموا بعدله العالمين.