والإدغام ، والفصل والوصل ، والوقوف فى موضع الوقف ، ووصل القراءة فى مواضع الوصل ملاحظا المعانى ، ومدركا ما يقرأ ، وهذا يتلاقى مع ما روى عن ابن عمر أنه قال : حسنوا أصواتكم بالقرآن. وما روى عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : «زينوا أصواتكم بالقرآن».
ولا شك أن الوهم الذى دخل على الذين يقرءون القرآن بألحان الأعاجم ، والذى استنكره أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، هذا الحديث هو العماد الذى يقوم عليه عمل هؤلاء ، نحن لا نرى فيه ما يؤيد كلامهم.
إن التغنى مصدر غنى يغنى تغنية ، وهو فيما أعتقد غير الغناء؟ لأن الغناء هو القصد إلى إسماع غيره ليطرب ويتطرب لا ليتعظ ويعتبر ، أما التغنى فهو استمتاع المتكلم مما يتكلم به مترنما بالنطق ، مستحبا له مستملحا ، مستطيبا للكلمات ذواقا لها ولمعانيها ، ولننزل من مرتبة القرآن السامية إلى منحدر الشعر ، فإن إنشاد الشعر من الشاعر استمتاع بالألفاظ ، ورنة الموسيقى فى الشعر ، يهتز بها مترنما ، يفعل ذلك ولو لم يسمعه أحد ، ولو لم يقصد إلى سماع أحد ، وكذلك المؤمن القارئ للقرآن يتذوق ألفاظه ويدرك الصور البيانية التى تصدر عن أساليبه ، ويخشع لما يشتمل عليه من عظات وعبر ، ويحس بأن الله تعالى يخاطبه ، وتعتريه روحانية من الألفاظ ونغمها وجلال معانيها.
هذا هو التغنى الذى نفهم أنه خاصة من خواص المؤمنين ، ويفعله الصديقون ، وليس منه ما نسمعه الآن من القراء الذين يطربون ، ويرجعون الحروف ، ويلوون بها الألسنة ، فإن هذا غناء وليس مجرد تغنى ، وإن هذا النظر يتلاقى مع بعض الروايات ، فقد روى أبو سعيد الخدرى فى قوله عليه الصلاة والسلام : «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» ، قال : كانت العرب تولع بالغناء والنشيد فى أكثر أقوالها ، فلما نزل القرآن أحبوا أن يكون القرآن هجيراهم مكان الغناء فقال عليه الصلاة والسلام : «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» أى يشبع نفسه بحسن ترتيله وتلاوته ليكون هو الذى يستمتع به من كلامهم.
وقد روى سفيان بن عيينة عن سعد بن أبى وقاص أن تغنى هنا بمعنى استغنى ، وأن بعض المعاجم يفسر التغنى بمعنى الاستغناء ، فقد جاء فى الصحاح تغنى الرجل بمعنى استغنى ، فمعنى النص الشريف ، ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن أساطير الأولين ، وأقاصيص القصاصين.
وقد أنكر الشافعى تفسير التغنى فى الحديث بالاستغناء ، وتابعه فى ذلك ابن جرير الطبرى ، وقال الطبرى : إن التغنى هو حسن الصوت بالترجيع ، وهذا التفسير يتلاقى مع قولنا الذى أسلفناه ، وهو التمتع بحلاوة الألفاظ القرآنية ، ورنين أساليبها