لأنهم يعرفون مقام ما يسمعون من كلام رب العالمين ، استطاعوا أن يجحدوا الحق وقد عرفوه ، ولم يستطيعوا أن ينزلوا بمقامهم من الإدراك البيانى فيفندوا بيانهم وذوقهم الكلامى ، وإن ارتضوا أن يفسدوا عقائدهم ، ويكابروا فى دينهم ، ويكذبوا رسالة ربهم.
وقد يقول قائل : إن التاريخ الإسلامى لم يرو غير الذين صدقوا وآمنوا فحذفوا ما كانت فيه معارضة للقرآن الكريم ، وذلك كلام قيل من الأفاكين ، ويرده أمران :
أولهما ـ أنه ما كان يمكن أن يعم الإيمان ، وثمة معارضون للقرآن فى جد لا لهو فيه ، ولا عبث.
ثانيهما ـ أن أعداء الإسلام كانوا فى كل زمان منذ ظهر محمد إلى أن قبضه الله تعالى ، ودخل الناس فى دين الله تعالى أفواجا أفواجا ، فالزنادقة كانوا منبثين فى مشارق الأرض ومغاربها ، لا يألون المسلمين وبالا ، وكانوا أعداء الإسلام فى أوساط المسلمين وبين ظهرانيهم فبثوا الأفكار المنحرفة ، والأقوال الهادمة ، والمذاهب المخربة ، وأولئك ما كانوا ليستروا الكلام الذى عورض به القرآن ، إذ يرون فيه هدم الأصل ، وأقصى ما استطاع أولئك الزنادقة أن يفعلوه هو أن يدعوا أن عبد الله بن المقفع (١) اتجه إلى أن يكتب كتابا يعارض به القرآن ، وهو إن صح كلامهم فيه يدل على أنه نوى ولم يفعل ، ولو فعل لنظرنا إلى ما أتى به. وإننا نشك فى أصل صحته ، ولكنهم يريدون أن يثيروا الغبار ، والغبار قد يغشى الأعين المريضة ، وإن كان قد أراد هذا فهو دليل على حمقه ، ويثبت زندقته التى اتهم بها ، وأنه أشاع ذلك توهينا ، وإن علم أن المحاولة فوق طاقة البشر.
سر الإعجاز
٣٢ ـ عجز العرب عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ثابت ثبوتا لا مجال للريب فيه ، لا يرتاب فيه مؤمن ولا يجحده ، ولا يمارى فيه إلا من يهمل عقله ، ويسقط من حساب المفكرين ، فعلى ذلك تواترت الأخبار ، واتفقت الأمصار ، لا فرق بين عدو وولى.
وإنه واضح من سياق الأخبار المتواترة أن عجزهم اقترن بثلاثة أمور :
أولها ـ إعجابهم بعلوه عن أن يصل إليه أحد من البشر ، ولم يحاول أحد من عقلاء المشركين أن يسف فيحاول المحاكاة إلا من اتصف بالحماقة فكانت حماقته ضعفين أحدهما فى محاولته ، وثانيهما فى نتائج هذه المحاولة ، إذ جاء بلغو من القول لا يحتسب فى عداد الكلام ، فضلا عن أن يناهد أبلغ كلام أنزله الله تعالى فى البشر.
__________________
(١) توفى سنة ١٥٨ ه.