لم يملك فيه بادرة عابها هو من غيره ، ولم يتحاش وجها من التأفف لم يرضه من سواه ، وخرج كتابه كما قال هو فى كتاب الجاحظ ، لم يكشف عما يلتبس فى أكثر من هذا ... وقد حشد إليه أمثله من كل قبيل من النظم والنثر ، ذهبت بأكثره ، وغمرت جملته ، وعدها فى محاسنه ، وهى من عيوبه. ثم يقول : «وكان الباقلانى ، رحمهالله وأثابه ، واسع الحيلة فى العبارة ، مبسوط اللسان إلى مدى بعيد ؛ يذهب فى ذلك مذهب الجاحظ. ومذهب مقلده ، على بعد وتمكن ؛ وحسن تصرف ، فجاء كتابه ؛ وكأنه فى غير ما وضع له لما فيه من الإغراق فى الحشد ، والمبالغة فى الاستعانة ؛ والاستراحة إلى النقل».
والرافعى بهذا ينقد الباقلانى ، ويصفه بمثل ما وصف هو به الجاحظ.
ومن حق العلم على العالم ألا يتنقص غيره ؛ وأن يعرف اللاحق أنه متمم لما بدأ السابق ؛ غير ناكر لفضل ، ولا باخس لحظ.
وهكذا فى عصر الباقلانى ومن بعده ؛ حتى كان آخرها تأليفا من حيث القيمة العلمية والدرجة البيانية كتاب إعجاز القرآن للرافعى رحمهالله تعالى ؛ وأثابه ، وجزاه عن الإسلام خيرا.
وجوه الإعجاز
٣٨ ـ نقصد بوجوه الإعجاز الأمور التى اشتمل عليها القرآن ، وهى تدل على أنه من عند الله ، وما كان فى استطاعة أحد أن يأتى بمثله ، وما كان فى استطاعة الجن والإنس أن يأتوا بمثله ، ولنتجه إلى أقوال العلماء فى هذه الوجوه ؛ ثم نتجه بعد ذلك إلى بيان ما نقصد إلى بيانه من بحثنا هذا الذى نضرع إلى الله أن يمن علينا بالتوفيق فيه كما من علينا من قبل ، فنحن نعيش فيما نكتب ونبحث تحت فيض الله تعالى وتوفيقه ، ولو لا توفيقه سبحانه وتعالى ما وصلنا إلى شىء.
يعد صاحب الشفاء أوجه الإعجاز فى القرآن فيحصرها فى أربعة :
أولها ـ حسن تأليفه ، والتئام كلمه ، وفصاحته وبلاغته الخارقة لما عند العرب.
وثانيها ـ صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ، ومناهج نظمها ونثرها الذى جاء عليه ، ووقفته عند مقاطع آية ، وانتهاء فواصل كلماته ، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له ، ولا استطاع أحد مماثلة منه.
وثالثها ـ ما انطوى عليه من الأخبار بالمغيبات وما لم يكن ولم يقع فوجد كما ورد على الوجه الذى أخبر كقوله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧] ، وكقوله : (غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى