القسم الثانى : الإعجاز بما اشتمل عليه من ذكر لأخبار السابقين ، ولأخبار مستقبلة ، وقعت كما ذكر ، واشتماله على علوم كونية وحقائق لم تكن معروفة فى عصر محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقد أتى بها القرآن ، وتقررت حقائقها من بعد. وكذلك ما اشتمل عليه من شرائع أثبت الوجود الإنسانى أنها أصلح من غيرها وأنها وحدها العادلة ، وأن هذا النوع معجزة للأجيال كلها ، وهو يحتاج فى بيانه إلى مجلدات ضخام ، ولذلك نتجه ابتداء إلى القسم الخاص بالبلاغة ، وهو الأول.
الإعجاز البلاغى
٤١ ـ أخذنا أولا من أسباب الإعجاز ذلك السبب ، لأنه الواضح بالنسبة للعرب ، لأنه هو الذى شده به العرب عند أول نزوله فحيرهم ، وهم المدركون لأساليبه ، العارفون لمناهجه ، الذين يذوقون القول بأسماعهم ، ويدركونه بعقولهم ، ويعرفون مواضع الكمال ، ومواضع النقص فى كل ما يسمعون من شعر ، حتى أنهم يتجهون إلى مواضع الحسن ، والمآخذ التى تؤخذ بلقانة فطروا عليها ، ولباقة عرفوا بها.
ولنسق لك مثلا من نقدهم ، فلقد عرض بيتان فى سوق عكاظ على الخنساء لحسان بن ثابت رضى الله عنهما ، فلمحت بقوة الملاحظة الناقدة ما فيها من عيوب تخفى إلا على من يذوق الكلام ذوقا ، ويدرك معانيه وألفاظ بأرب وفكر مستقيم.
قال حسان رضى الله عنه :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى |
|
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما |
ولدنا بنى العنقاء وابني محرق |
|
فأكرم بنا خالا ، وأكرم بنا ابنما |
فقالت الخنساء : ضعفت افتخارك ، وأنزرته فى ثمانية مواضع ، قالت : قلت لنا الجفنات ، والجفنات ما دون العشر ولو قلت الجفان لكان أكثر ، وقلت : الغر ، والغرة البياض فى الجبهة ، ولو قلت البيض ، لكان أكثر اتساعا. وقلت يلمعن ، واللمعان شىء يأتى بعد الشيء ، ولو قلت : يشرقن لكان أكثر ؛ لأن الإشراق أدوم من اللمعان ، وقلت بالضحى ، ولو قلت بالدجى لكان أبلغ فى المديح ، لأن الضيف أكثر طروقا بالليل ، وقلت أسيافنا ، والأسياف دون العشرة ، ولو قلت سيوفنا لكان أكثر ، وقلت يقطرن ، فدللت على قلة القتل ، ولو قلت يجرين لكان أكثر لانصباب الدم ، وقلت دما ، والدماء أكثر من الدم ، وفخرت بمن ولدت. ولم تفتخر بمن ولدوك أه (١).
سقنا ذلك الخبر ، وهو صورة لما كان عليه الذوق البيانى ، وإن كان هنالك شك فى روايته ، فإنه يدل على أن روح النقد بالذوق المرهف كان مشهورا بين العرب وكثيرا.
__________________
(١) هامش إعجاز القرآن للرافعى ص ٢٥٥.