وجوه الإعجاز البلاغى
٤٣ ـ إن كل شىء فى القرآن معجز من حيث قوة الموسيقى فى حروفه ، وتآخيها فى كلماته ، وتلاقى الكلمات فى عباراته ، ونظمه المحكم فى رنينه ، وما وصل إليه من تأليف بين الكلمات ، وكون كل كلمة لفقا مع أختها ، وكأنما نسيج كل واحدة قطعة منه تكمل صورته ، وتوحد غايته ، ومعانيه تجدها مؤتلفة مع ألفاظه ، وكأن المعانى جاءت مؤاخية للألفاظ ، وكأن الألفاظ قطعت لها ، وسويت على حجمها.
ثم هو الذى يدركه كل ذى قوة فكرية بمقدار إدراكه ، والمعنى صحيح فى كل إدراك صحيح ، وفى كل ذى طاقة سليم ، بلا تخالف ، يسمعه المؤمن فيقر به ويؤمن بما جاء فيه ، ويسمعه المخالف فيدرك الحق من ثنايا كلماته ومعانيه إن أخلص فى جانب الحق ، وإن لم يؤمن فإنه يدرك ما فى القرآن من خواص لا يصل إليها كلام كائنا من كان قائله.
جاء فى كتاب الشفاء للقاضى عياض : «حكى أن عمر بن الخطاب رضى الله تبارك وتعالى عنه كان يوما نائما فى المسجد فإذا هو برجل قائم على رأسه يتشهد شهادة الحق فاستخبره ، فقال له : إنى من بطارقة الروم ممن يحسن كلام العرب وغيرها ، وإنى سمعت رجلا من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم فتأملتها ، فإذا قد جمع فيها ما أنزل على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة وهى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ) [النور : ٥٢] ، وحكى الأصمعى أنه سمع كلام جارية فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك! فقالت أو يعد هذا فصاحة بعد قول الله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٧) [القصص : ٧] ، فجمع فى آية واحدة بين أمرين ، ونهيين ، وخبرين ، وبشارتين. فهذا نوع من إعجازه منفرد بذاته غير مضاف إلى غيره على التحقيق» (١).
هكذا نرى كل إعجاز القرآن من نواح شتى ، ربما تعز على الاستقراء ، ففي موسيقاه لا يسع سامعه إلا أن يصغى بقلبه ، وقد رأيت كيف كان العرب يتفقون على ألا يسمعوا لهذا القرآن ويلغوا فيه ثم يذهب إليه المتفقون فرادى فيلتقون جماعة.
ولقد كان لموسيقى القرآن ونظمه روعة عند كل سامع ، حتى من لا يفهم العربية ، فإن لكلماته ونظمه ومده وغنه ، ونهاية فواصله ، ووقفه ـ ما يسترعى من لا يفهم العربية ، وإذا كان لا يفهم معنى الكلمات. فإن النغم يعطيه صورا رائعة.
__________________
(١) الشفاء للقاضى عياض ص ١٦٩.