فأولا : الفاء التى تفيد ترتيب الجزاء على الأعمال ، وثانيا : التعبير بربكم الذى فيه الإشارة إلى أنه خلق فسوى وهو المربى المكمل ، الهادى كلا إلى غايته ، وثالثا : ترتب العلم الكامل على كونه الخالق ، ورابعها : ذكر العلم الكامل بأفعل التفضيل الذى يدل على أنه لا علم فوقه إن كان ثمة تفاضل ، وخامسا : التعبير عن الجزاء بأنه أثر الهداية ، وإن الله تعالى أعلم بالمهتدين ، وسادسا : التعبير بأفعل التفضيل فى أهدى ، أى أنه العالم بمن اهتدى بعد أن يغفر الله ، وسابعا : فى التمييز بكلمة سبيلا ، وفيه بيان بعد نوع من الإبهام ، وكذلك يكون العلم متمكنا فضل تمكّن ، علم بالهداية وعلم بمنهاجها ، وهو السبيل القويم.
٥٠ ـ بعد هذا النظر السريع إلى تلك الآية نتجه إلى آية أخرى ، نجد فيها الكلمة تدل على معنى لو غيرت بغيرها مما يكون فى معناها ظاهرا ، مرادفا لها بادى الرأى ، لا يمكن أن يؤدى المعنى الذى يشرق منها ، ويجتمع به فى الدلالة صورة اللفظ ، وإشراق المدلول.
اقرأ قوله تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (١٨) [التكوير : ١٨] ، فإننا لو أردنا تغيير كلمة من هاتين الكلمتين لتغيرت الصورة البيانية ، ولننظر فيهما.
الكلمة الأولى : وهى الصبح ، فإنها تدل على النور الذى يتخلل الظلمة ، ويسرى فيها شيئا فشيئا وينبعث فى هذا الوجود فيملؤه نورا ، وتنبعث من بعده الحياة ، ويخرج الناس إلى معايشهم بعد سبات الليل وسكنه ، وما يغشى به الكون من لباس الظلمة.
ولا شك أن كلمة الفجر قد تدل على بعض معانى كلمة الصبح ، والعلماء يعدونهما من المترادفين ، ولكن عند التحقيق نجد كلمة الفجر تدل على معنى شق الظلمة ، وعلى مجرد ابتداء نهاية الظلمة ، ولذلك يقترن بها ذكر الليالى ، كما قال تعالى : (وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) (٣) [الفجر : ١ ـ ٣] ، فقد كان ذكر الليالى مع الفجر متناسبا ؛ لأن الليل متآخ مع الفجر فى معناه ، وقصد به مجرد نهاية الليالى.
ولكن كلمة الصبح لوحظ فيها الإشارة إلى ابتداء النهار. فإذا كان وقت الفجر والصبح واحدا ، فإن الفجر فيه بيان إنهاء الليل ، والصبح ابتداء النهار ، ولذا يستحسن الناس أن يقال طلع الفجر ، ولا يقال طلع الصبح ، بل يقال أشرق الصبح ، وهنا نجد المعنى واحدا فى الجملة ، ولكن الدلالة اللغوية الدقيقة مختلفة ، فهذا إشراق ، وذاك إنهاء.
والكلمة الثانية : كلمة (تَنَفَّسَ) فإن كلمة التنفس فى ذاتها تدل على بدء مظاهر الحياة شيئا فشيئا ؛ ذلك لأن أصل التنفس من النفس ، وهى الحياة ، وهى أيضا الريح ،