اقرأ قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢١) [القصص : ٢٠ ، ٢١] ، هذه القصة بسياقها كل لفظ منها ينبئ عن معنى اللهفة والحذر ، فهذا الرجل الناصح الأمين تجده يسعى من أقصى المدينة ، والتعبير بأقصى يدل على المحبة الخالصة الطيبة ، ثم كلمة يسعى تدل على أنه جاء عدوا لا قرار عنده ولا اطمئنان وقوله : (إِنَّ الْمَلَأَ) ، وهم كبار القوم يدبرون الأمر ليقتلوك.
واستجاب موسى لنصيحة الرجل الأمين ، فخرج خائفا يترقب «انظر إلى كلمة يترقب» فهو ينظر يمينا وشمالا وأماما وخلفا يترقب من يأتيه من أمامه ، ومن يأتيه من ورائه ومن يأتيه من شماله ومن يمينه ، وكلمة يترقب تصور تلك الحال ، وتصور النفس المحترسة الآخذة تجدها فى اطمئنان نفسى ، واحتراس من غير اضطراب ، فالمترقب الخائف غير المضطرب الخائف ؛ لأن الخائف المضطرب لا يحسن الترقب ولا الحذر فيصيبه الهلع فيخاف من غير مخوف ، ويقع بهلعه وفزعه فيما يخشاه ، ولفظ القرآن الكريم ينبئ عن هذه المعانى السامية ، والكلمات صور لمعان حسية ومعنوية ، ظاهرة وباطنة ، والله سبحانه السميع العليم ، والحكيم الذى أنزل كتابه المبين الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
الكلمة مع أخواتها والعبارات مع رفيقاتها
٥٤ ـ قلنا : إن للكلمة إشراقا خاصا ، فكل كلمة لها إشعاع فكرى ، ولكنها لا يبدو منها ذلك الإشعاع ، والبلاغة البيانية إلا مع أخت لها تناسبها ، وتتلاقى فكريا معها ، فمثلا كلمة ـ تنفس ـ التى ذكرناها فى قوله تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) لا ينبعث منها ذلك الإشعاع الفكرى إلا إذا كانت كلمة الصبح معها ، فلا بد لكى يكون ذلك الإشعاع المعنوى صحيحا واضحا مؤديا إلى غايته من أن يكون مقترنا بالصبح ، ومع أن الإشعاع منها وحدها ، إلا أنه لا يضيء إلا مع كلمة الصبح ، وكلمة الصبح لا تفترق عن كلمة الفجر ، إلا إذا كان يتبعه التنفس والإسفار ، فالصبح والتنفس متلازمان ، وإن كان كل منهما مؤديا معنى مستقلا ، والتلازم كان بألا يتبين ذلك المعنى الاستقلالى إلا بضم الأخرى إلى الأولى.
وذلك ما أشرنا إليه فى ابتداء الكلام فى بلاغة الكلمة القرآنية ، وما ارتضاه الجرجانى الذى حمل عبء القول عن نفى بلاغة اللفظ المنفرد ، فقيد نفيه بأن يكون مستقلا منفردا ، فإذا انضم إلى غيره بدت بلاغة الكلمة فى أنه يكون لها صورة بيانية ، وبانضمامها تكون لها صورة بيانية من الهيئة المجتمعة.