أجزاء الكلام ، ويلتئم بعضه ببعضه فتقوم له صورة فى النفس فيتكلم بها البيان» ، وإذا كان الأمر فى ذلك على ما وصفناه ، فقد علم أنه ليس المغرد بذرب اللسان وطلاقته كافيا فى هذا الشأن ، ولا كل من أوتى حظا من بديهة حاضرة وعارضة كان ناهضا بحمله ومضطلعا بعبئه ، ما لم يجمع إليها سائر الشروط التى ذكرناها على الوجه الذى حددناه ، وأنى لهم ذلك ، ومن لهم به (١) : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٨٨) [الإسراء : ٨٨].
وإن الشروط التى ذكرها فى آنف قوله هو اختيار الألفاظ من ناحية معانيها ، وقوة تماسكها بعضها ببعض ، وأشار إلى أن الألفاظ قد تكون مترادفة فى الظاهر ، ولكن عند التحقق فى مرماها يكون الاختلاف ، وإن كان المعنى الجملى واحدا.
وإن الناظر إلى أسلوب القرآن الكريم فى الخطاب والبيان ، يجده مختلفا. فمثلا أحيانا يكون بالاستفهام والاستفهام أحيانا للتوبيخ ، وأحيانا للتقرير وأحيانا يكون للتنبيه ، والكلام يكون بإطناب لا حشو فيه قط ، ومعاذ الله أن يكون فى كلامه تعالى ما يشبهه ، وفى الإطناب يكون تكرار القول ، وأحيانا يكون الكلام إيجازا ليس فيه إخلال ، وأحيانا يكون الكلام تهديدا تضطرب له القلوب وتفزع ، وأحيانا يكون توجيها يدعو إلى التأمل والفكر ، وأحيانا ببيان أحكام الحلال والحرام وتوجيه أنظار المكلفين إلى حكمها ، وكل ذلك فى أسلوب متناسب مؤتلفة ألفاظه ، ومؤتلفة معانيه ، بحيث يتكون من الجميع صورة بيانية متناسقة فى معانيها مؤتلفة فى ألفاظها لا ينبو واحد منها فى لفظ أو معنى ، بل يتآخى الجميع.
التآلف فى الألفاظ والمعانى
٥٦ ـ التآلف فى الألفاظ ، بألا تكون بينها نفرة فى المخارج ، ولا نفرة فى النغم ، بل يتلاقى نغمها ، وتسهل مخارجها ، فلا تكون واحدة نابية عن أختها ، بل تتآلف وتتآخى فى نسق واحد ، بحيث لا تبدو واحدة بنطق غير مؤتلف مع نطق تاليتها ، أو كما قال الجرجانى فى دلائل الإعجاز : «كل كلمة لقف مع أختها ، ولو حاولت أن تنزع كلمة لتضع مكانها فى معناها ما ائتلف السياق ولا انسجم الأسلوب» ويقول فى هذا الباقلانى فى كتابه (إعجاز القرآن) :
«واعلم أن هذا علم شريف المحل عظيم المكان قليل الطلاب ضعيف الأصحاب ، ليست له عشيرة تحميه ، ولا أهل بيت عصمة تفطن لما فيه ، وهو أدق من السحر ، وأهول من البحر .. وكيف لا يكون كذلك وأنت تحسب أن وضع الصبح ، فى
__________________
(١) رسالة الخطابى ص ٣٧.