الذات بعد التعين ، أي بدء انتشار الأنوار من الذات الصرفة ، أو كما قيل في الفلسفة : يتكثر من جهة معلولاته ، والقمر القلب ، إذ أن القلب يستقبل الأنوار ، ويكون محلا لها وعاكسا لها كما قال عارف بالله الله هو المكلم بكسر اللام والمكلم بفتحها ، وأنت في الوسط شبح يقع بك محل الخطاب ، وقول عارف بالله آخر : النفس معبر بين الحس والعقل ، ومرة تلطف الأشياء الحسية حتى تصيرها كأنها عقلية فينالها العقل ، ومرة تجسم الأشياء العقلية فينالها الحس ، والعملية إلهية اتفقت الفلاسفة المؤمنون على تسميتها العقل الفعال وقالوا : إن هذا العقل هو الذي يقوم بعملية التجريد في العقل الهيولاني ، وإن هذا الأخير مادي سالب منفعل مفعول به وفيه لا أكثر ، كما أطلقت الأشاعرة شعارهم المشهور لله الفعل وللإنسان الكسب.
وقوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) يعني مسبب الأسباب ، وكان الإمام الغزالي قد حمل على القائلين بقدم المادة الأرسطيين الذين فرقوا بين الله والعالم ، أو نفوا تدخل الله في العالم ، وبين الغزالي أن ما نراه بأعيننا من علاقة بين الأسباب والمسببات لا يكفي للحكم مثلا بأن النار سبب الإحراق وما نراه ليس إلا نتيجة ارتباط سببية فقط ، وأضاف قائلا : إنه قد عرف عن طريق الكشف والذوق سر رابطة العلية هذه ، وأن الفاعل الحقيقي هو الله ، وإلى هذا الفعل أشارت الآية قائلة : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ).
٥٥ ـ (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥))
[الأعراف : ٥٥]
الخفية السر ، والسر كله في هذا السر ، إذ أن لطيفة الإنسان سر ، فهي مستعصية على التعريف والحصر والمعرفة ، ومهما قالت العلماء والحكماء في النفس ، أو كما عرفها أرسطو مثلا بأنها كمال أول لجسم آلي طبيعي ذي حياة بالقوة ، وهو أبلغ تعريف قيل في النفس ، فإن وصف هذه الهوية يظل بعيدا عن أساليب التعبير نظرا لكون النفس شعاعا نورانيا حقانيا مصورا ومستودعا ، والإحاطة بالهوية الإلهية مستحيل أصلا نظرا لكون هذا النور المحيط نورا معنويا لا عقليا ولا ماديا كما قال الإمام الغزالي ، والمهم الإشارة في قوله : (وَخُفْيَةً) إلى العلاقة بين الأصل والفرع ، أو بين النور الشريف والنور المضاف كما قال شهاب الدين السهروردي ، ونظرا لكون هذا النور لطيفا فهو خفي ، ويتلمس الإنسان هذه الحقيقة إذا ما استبطن نفسه ، وفكر في حقيقتها وهويتها وماهيتها ووجودها وكيفية ممارستها للفعل ، وقال أفلوطين : إني ربما خلوت إلى نفسي وجعلت بدني جانبا ، وصرت كأني جوهر مجرد بلا بدن ، فأكون داخلا في ذاتي ، راجعا إليها ، خارجا من سائر الأشياء فأكون العلم والعالم والمعلوم جميعا.
٥٦ ـ (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦))
[الأعراف : ٥٦]