فمن العلم بالكليات مثلا علم الله أن المؤمنين شجعان فقال : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ولما مثل المؤمنون دور الشجاعة خرجت نتيجة جديدة علمها الله ألا وهي أن العشرين لا يغلبون مائتين ، وإنما المائة يغلبوا مائتين ، وتبين المعادلة أن الصراع قد أخرج مكنون الصفة ، كما قال هيغل ، كما أتى بنتيجة جديدة أيضا كما قال شيلنغ ألا وهي أن المائة الصابرين يغلبون مائتين.
وعليه وفقا لما جاء في كتاب الله فإن العلم الإلهي هو ثابت ومتطور ، أما ثباته ، فلأن النتيجة محدودة مسبقا بإخراج مكنون الصفات ، وأما تطوره فلأنه تبين لله مدى حدود الصفة الكلية ، إذ كان علمه بالشجاعة على نحو كلي ، فلما مارس المؤمنون الشجعان دورهم تبين لله أن النسبة التي ضربها مثلا لشجاعة المؤمن كانت أكبر من أن تتحقق ، فخفضها وخففها حتى تلاءمت مع هذا الواقع.
وفقا لما ذكرنا فإن العلم الإلهي يكون مرتقا أولا ، وهو في حاجة إلى ميدان فعل لإخراج مكنونه ، كما أن المعية الإلهية هي سبب هذا الفعل الميداني ، وأن الله يرى ويراقب الأحداث ويوجه ويخطط ، وهو يسمح أيضا بالتطور الضروري لإتمام الفعل ، وتقول الصوفية إنه لا يقدح في العلم الإلهي أن يكون متطورا على هذا النحو ، وإن الله بالمرصاد ، وإنه الحاكم والقائد ، وإنه أخيرا الوارث ، وإنه خير الوارثين.
٦٧ ، ٦٩ ـ (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩))
[الأنفال : ٦٧ ، ٦٩]
الأسرى بمثابة إبقاء النفس الجزئية على قيد الحياة ، والله سبحانه عند ما عين هذه النفوس حدد الغاية من تعينها وهو ظهوره بوجهه الجامع ، وعليه فلا بد من تقديم النفس الجزئية هبة لله ، ما دامت هي أصلا عارية أعارنا إياها ، وأن رد العارية يكون طوعا أو كرها ، لأن الله هو الوارث ، وبعد التضحية تبدأ حياة أخرى هي حياة الآخرة والبقاء بالله.
٧٠ ، ٧١ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١))
[الأنفال : ٧٠ ، ٧١]
الله عليم بحقيقة كل نفس جزئية لأنه هو عينها وحقيقة اسمها ، فأما النفوس الخيرة فإن الله يبلغها مأمنها ، ويؤتيها اليقين فتحيا بالله.