وبمساعدة أنوار تسعة أول هي مبادئ الوجود وأسسه ، وسميت هذه الأنوار أو العقول أعدادا مثالية اهتدى إليها أفلاطون في أواخر أيامه ، وشرحنا في كتابنا المذكور أن الفيثاغوريين علماء الرياضيات القدامى هم الذين قالوا : إن النوتة الموسيقية تتألف من أعداد تقوم على أسس عددية ، وأن الفواصل الموسيقية الرئيسية في السلم الموسيقي يمكن أن يعبر عنها في نسب من الأعداد الأربعة الأولى ، وهذه الأعداد مجتمعة تشكل العدد عشرة الذي كان له عند الفيثاغوريين دلالة مقدسة ، ولما كانت الموسيقى لها قوة خاصة على الروح ، وهي التي تتخلل الكون فإن العالم كله لا بد وأن يكون على نحو ما مؤلفا من العدد وعناصر العدد.
والمهم القول : إن الكون وحدة ، وإن للنبات دورا في حياة الإنسان ، وإن للحيوان دورا في حياة النبات من جهة وفي حياة الإنسان من جهة أخرى ، وإن الإنسان من دون عالمي النبات والحيوان لا يستطيع أن يحيا ... ثم يحيا ... ثم بينا أن لهذه العوالم لغة خفية واحدة هي لغة الموسيقى الكونية.
١٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤))
[النحل : ١٤]
البحر الذات بشقها الهيولاني ، وعليه فلقد قالت الفلاسفة : الموضوع امتداد للفكر وأنه هو الفكر مجسد ، فلا اثنينية في الوجود وكان في هذا التوحيد الرد على ديكارت الذي فصل بين الفكر والموضوع.
واللحم الطري المعقولات المستخرجة بالتجريد من المحسوسات ، والتي إليها أشار النبي في حديثه عن الساعة وأشراطها ذاكرا إن من علامات الساعة أن من الناس من يأكل حشيش الجزر ، وقال عبد الكريم الجيلي مفسرا أكل حشيش الجزر : أكل من حشيش الأكوان جزر ظهور الرحمن ، والجزر في اللغة كل شيء مباح للأكل ، أو ما يصلح للذبح من الشاة ، والإشارة إلى العلوم المستودعة في الإنسان الذي ما إن يضحي بنفسه حتى يستخرج مما أودع فيه من اللحم الطري.
والحلية المستخرجة للباس الصفة المستخرجة من الموصوف ، وإليك سر هذه الرقيقة التي اقتضت خلق العالم لاستخراج الحلي منه ، فلقد ذكرنا أن الجهاد ضروري لفلق مكنون الصفات ، وعليه فكما أن الغواص يغوص في البحر ليستخرج اللؤلؤ والمرجان مكابدا مجاهدا صابرا كذلك فإن الحياة على الأرض ضرورة تقتضي استخراج الحلي ، وفي كتاب الله وصف للذين يستخرجون حلي الصفات من جهنم العيش والحياة إذ قال : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٩] ، أي فقر وجوع.