٤٤ ـ (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤))
[الإسراء : ٤٤]
السموات السبع رمز الصفات الإلهية السبع التي تحدثنا عنها سابقا ، ووصفت بأنها سموات لأن السماء لطيفة شفافة أثيرية لا بل وشعاعية ، ولا ينطبق عليها وصف عالم الإنسان سوى الخيال الذي هو حيز يبرز فيه المعقول ، فالمعقولات وظلالها هي السموات لأنها الجسر المعلق والمنصوب بين الخالق والمخلوق.
وقوله سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ،) يعني اعتماد كل ذي حياة اسمه تعالى الحي ، والأمر أعمق غورا من أن يحدد بالنطق الذي هو التعبير عن لغة العقل نفسه ، فالفكر وجه من أوجه نشاطات الروح الكلي ، ولكن نشاط الروح الكلي يشمل آفاقا أخرى كالوجدان والشعور والغريزة والفطرة وردود الفعل الأخرى ، فالإنسان مثلا ، وهو كما عرف حيوان ناطق ، يتأثر بالموسيقى التي هي لغة الشعور والوجدان ، فيفرح بها ويحزن ويحلم ويحب ويشف ، أي أن الموسيقى تقلب الإنسان كما تقلبه الفكر ، وفي عالم الحيوان لا لغة سوى لغة الغريزة ، وفي عالم النبات لا لغة سوى لغة الكيماء والضوء ، وفي كتابنا الإنسان الكبير بيّنا تأثير الموسيقى في كل ذي حياة بما في ذلك النبات والحيوان ، وأثبتنا ذلك بشواهد حية وتجارب علمية حديثة معترف بها ، وقلنا كما قالت الفيثاغوريون : إنه ما دامت الموسيقى روح الكون فالنتيجة أن الروح هو الفاعل وهو المتصرف ، وهو الأصل لكل هذه الحياة.
وعلى هذا فما من شيء إلا يسبح بحمده ، إذ التسبيح هنا يعني الصلة بين الحياة ومظاهر الحياة واسمه تعالى الحي ، فهو سبحانه نور لطيف سار في كل موجود ، وما دام هو نور الأنوار كما قال السهروردي ، وباعتبار النفس مرآته ، فالنتيجة أنه سبحانه يسبح لنفسه بنفسه ، إذ ما من موجود سواه.
وقوله : (لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ،) يعني أن الإنسان لا يعقل إلا عن طريق الفكر ، والنطق هو أسلوب التعبير عن الفكر ، فالإنسان سجين فكره ، ولما كان الكون أبعد أفقا وفلكا من الفكر والنطق فالنتيجة أن الإنسان لا يفقه تسبيح المخلوقات الأخرى ، أو على الأصح لا يفقه تسبيح الروح لذاتها بذاتها كما بينا أيضا وعلى هذا الأساس رفع هيغل صرح موسوعته الفلسفية مبينا أن ليس في الوجود إلا الروح ، وما سواه ظهوراته.
٤٥ ، ٤٦ ـ (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦))
[الإسراء : ٤٥ ، ٤٦]