١٠ ـ (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠))
[مريم : ١٠]
عدم تكليم الناس إشارة إلى الاعتكاف في محراب الخلوة والانقطاع عن العالم الخارجي ، ليتحقق تفجير الطاقة النورانية الكامنة في القلب ، وتحديد المدة بثلاث ليال إشارة إلى العوالم الثلاثة التي خلق الله الإنسان فيها من قبل أن ينفخ فيه من روحه كما قال سبحانه في موضع آخر : (مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزّمر : ٦] ، وهذه العوالم هي الذات والصفات والأفعال.
١١ ـ (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١))
[مريم : ١١]
القوم إشارة إلى الحواس ظاهرة وباطنة وقد حبست في الخلوة انتظارا لظهور الوحي ، والملاحظ أن كلمة القوم هي مفرد ولها معنى الجمع كما يقال جيش مثلا ، وفي الفلسفة تدرج الجزئيات في الكليات حيث يكون الناس ممثلي الإنسانية ، وتكون الإنسانية ممثلة النوع ، ويكون النوع واحدا وإن ظهر في كثير.
١٢ ـ (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢))
[مريم : ١٢]
قلنا : يحيى إشارة إلى القلب وقد انفجر فيه النور الشعشعاني فضاء المصباح المقدس الذي ورد ذكره في موضع آخر كقوله سبحانه : (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) [النّور : ٣٥] ، والكتاب فض ختم النفس الكلية التي صار القلب ممثلها ولسانها الناطق ، والتي سميت في القرآن أم الكتاب ، ففي هذه النفس العلوم المطوية التي نشرت في العالم المحسوس عن طريق الحواس نفسها فكان الإنسان الأرض والفلاح والماء والحصاد.
وقوله : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) يذكر بقوله تعالى في عيسى ابن خالة يحيى : (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) [آل عمران : ٤٦] ... والإشارة إلى الولادة الذاتية المعنوية العلمية الجديدة التي يكون الإنسان حيالها مثل الصبي الذي جعل يتكلم.
١٣ ، ١٤ ـ (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤))
[مريم : ١٣ ، ١٤]
الحنان والزكاة والتقوى من صفات الأولياء ، وهي خاصة بهم دون الناس ، ولهذا رجحت أخلاق الأنبياء والأولياء أخلاق الناس أجمعين ، قال ابن سبعين : أهل الحقائق موالدهم معلومة ، ونفوسهم معصومة ، وأحلامهم مسددة موفقة ، وخواطرهم صادقة مصرفة ، وأخلاقهم حسنة لينة ، وأحوالهم بالجملة فاضلة سهلة هينة.