لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))
[طه : ٧٣ ، ٧٦]
الخطيئة الوجود نفسه ، وتقول الصوفية : متى تحققت بالعدم ، أي بنفيك الأنا صرت عدما فألحقت من ثم بالأبدية ، وتنعمت من ثم بالأنية الإلهية التي هي الموجودة بحق وحدها ، وما دعوى الإنسان ظاهرا وباطنا إلا من قبيل التطاول على هذه الأنية الوجودية الواحدة والمتكثرة معا ، ولهذا ختمت الآية بالقول : (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى ،) فمتى أعدم الإنسان نفسه فاز بالآخرة التي هي اسم الله الآخر ، فيصير الإنسان من ثم متألها عبدا لله وهيكلا وآلة لا غير.
٧٧ ، ٧٨ ـ (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨))
[طه : ٧٧ ، ٧٨]
قوله سبحانه : (طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً ،) إشارة إلى خروج العالم المادي من العالم الروحاني ، أو تكثف عالم الذر نفسه ، فالبحر في علم التأويل الذات المطلقة ، والبر الذات المقيدة ... وعباد الله هم الذين يسيرون في هذا البحر وحدهم لأنهم فانون عن أنفسهم قائمون بالله ، فمن جهة هم لهم أجرامهم كبشر ، وهذا ما أشير إليه في الآية باليبس ، ومن جهة أخرى هم قائمون بالحق باعتبار الحق البحر المحيط بكل شيء ، ولهذا قيل : إن لعباد الله ذاتين ، ذاتا قابلة للفناء هي النفس المادية ، وذاتا سرمدية خالدة هي النفس الإلهية ، والأولى متغيرة متقلبة ، كل ساعة هي في شأن ، والثانية ثابتة خارجة عن نطاق الزمان والمكان ، لها الديمومة والحياة والعلم والإرادة والقدرة ، فالإنسان المتأله هو الإنسان الذي ظهر الله به باعتباره الوجود المطلق كما قيل في ابن عربي ، وهذا الإنسان هو الخليفة تحديدا لأن الحقيقة ظهرت به ، فهو له ممثل ومظهر ، قال البسطامي في العارف : صار من حيث شاء إلى حيث شاء بمشيئة الله ، ويأتيه كل شيء وهو على مكانه بلا عناء ، فكلما ظهر بمكان فالمكان يحضره وهو لا يحضر المكان ، إذ هو لا يزول وثم لا يزول ، إذ هو مع من لم يزل ولا يزال ، إذ هو من هو لم يزل ولا يزال فافهم ذلك ، تتبعه الأشياء ولا يتبع شيئا ، إنما الأشياء كلها كائنة من الله.
أما الآخرون ذوو النفوس الترابية فهم غرقى اليم ، أو الهيولى الأولى ، أو المادة الأولى ، أو عالم الذر الأول ، أو السديم الأول ، أو المادة المظلمة المكتشفة في علم الفضاء الحديث ، وهذا العالم متحول كما قلنا ، إن ظهر الإنسان به وفيه فظهوره شبحي صائر من حال إلى حال كما يكون اليم عادة ، ولادته وحياته وموته فناء في فناء.