قال التستري : إن الله حجب عقول الخلق بحجب لطيفة ، فحجب العلماء عنه بالعلم ، والزهاد بالعمل ، والحكماء بلطائف الحكمة ، أما العارفون فأسكن قلوبهم من نور معرفته فلم يحجبهم بشيء.
ففي هذا الهرم الوجودي تمثل كل نفس دورها ليكون الهرم قائما على نظام هندسي وجودي محكم لا سبيل إلى الغلط فيه ، وإلا لتداعى الهرم كله فالوجود يقتضي وجود العالم والعامل والقائد والجندي والذكر والأنثى والمسالم والمحارب والمؤمن والكافر والعفيف والفاجر.
قال سبحانه : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [السّجدة : ١٣] ، وقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩].
وعلماء الحاسوب يتطلعون إلى بلوغ المرحلة التي يجعلون الحاسوب فيها يفكر ، والتفكير هنا يعني اختيار الحل الأمثل والأفضل لمسألة ما ، فالحاسوب يجمع ويطرح ويبني ولكنه لا يختار ، والإنسان وحده هو الذي يختار ، ولا يمكن التنبؤ بما يختاره ، وقلنا في كتابنا الإنسان الكامل : إن الماديين قالوا إن العمليات الفيزيولوجية الجارية في المخ والفكر ، وإن التفكير العادي عملية واحدة وحيدة ، والوعي هو حالتها الداخلية ، وعلى هذا لا يمكن إطلاقا الفصل بين الوعي والمادة المفكرة. وفي الوقت نفسه لا ينبغي النظر إلى الفكرة ، إلى الوعي على أنه مادة ، أي شيء ما مادي ، وهذا خطأ الماديين العاميين ، ولكن هذه النظرية ، كما قلنا في كتابنا المذكور ، لا تفسر كيف يختار جندي التضحية بنفسه في سبيل الآخرين ، بينما يختار جندي آخر السلامة والنجاة بجلده.
فالفكر إذن ، أي التفكير في الموضوع واختيار الحل الأفضل ، هو فعل إنساني بحت كما يثبت الواقع ، وتقول الصوفية ، ومعهم أرسطو وهيغل وآخرون ، إن الإنسان مجبور في اختياره ، وهذا أمر بدهي ما دام كل إنسان مطبوع بطابع اسمه وصفته ، فيطبع الجنين سعيدا وهو في بطن أمه ، وكذلك يطبع الشقي والمهدي والضال والعالم والجاهل ، ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم : (كل ميّسر لما خلق له).
ويختار الله من عباده آحاد أفراد يجعلهم خاصته ويصطفيهم ويصنعهم على عينه ، قال الجنيد : اختار صفوة عباده ، انتخبهم للولاية ، وجعل أوطان أرواحهم في مغيب الغيب ، وفي غوامض غيوب الملكوت ، أوجدهم فهم الدعوة منه ، وعرفهم نفسه حين لم يكونوا إلا مشيئة أقامها بين يديه ، أولئك هم الموحدون الفانون في حال فنائهم ، الباقون في بقائه.
وهؤلاء الموحدون هم أفراد نوع الإنسان الكامل والإنسان الجمعي ، فهؤلاء أوتوا حظهم