هذا على الوجه الظاهر ، أما الوجه الباطن فهو رد الصور إلى رب الصور ومخرجها من العدم إلى الوجود ، وعند التحقق بالمكاشفة يرى أن ما يرى من عالم الظواهر ذي الصور يقوم بالعين الواحدة أم الصور ، فهي أم الآلهة ، وهي ما تدعى أم الكتاب ، فعند الوصول إلى هذا الأفق يرى جبريل وقد سد الأفق ، أي يمتنع أن يوجد موجود إلا من قبل الموجد المصور.
فديانة التوحيد ترد الكثرة إلى الوحدة ، وترد الآلهة إلى الله ، ولهذا قال سبحانه : (لا إِلهَ ،) أي لا معبود ، إلا الله.
والحياة الصفة الأولى من الصفات الإلهية السبع ، فقبل أن يكون الله عليما مريدا قادرا سميعا بصيرا هو حي ، وترد كل مظاهر الحياة إلى هذه القاعدة الحية التي أوجدت كل كائن حي ، إذ لا بد من استناد إلى مصدر حي يقوم به كل حي ، وإلا فمن أين جاءت الحياة أصلا؟
وواضح أن المخلوق لم يخلق نفسه ، وواضح أن الطبيعة منفعلة ، فلا تكون خالقة نفسها ، ولا تكون حية بذاتها لأنها في الأساس عدم ، إذ ما أصل الحياة؟ ومن أين جاءت المادة الحية؟ وإذا وصلت الدراسات إلى اكتشاف أن الوجود المادي قد وجد من سديم أول ، فمن أين جاء هذا السديم الأول؟
والقيوم القائم بالأمر إذ أن الحياة تقتضي استمرارا لها وحفاظا على هذا الاستمرار ، ففي كل ساعة ونفس هناك ما يمسك الحياة لتبقى حية ، وأثبت العلم هذا بدوران الكهارب السالبة حول الكهارب الموجبة بفعل جاذبية غامضة لم يعرف لها أصل ، فهذا الجذب هو سر اتضاحه سبحانه بأنه قيوم ، شد السالب إلى الموجب ، وربط المنفعل بالفاعل ، وكلاهما وجه إلهي هو المسمى القيوم.
٣ ـ (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣))
[آل عمران : ٣]
القرآن والتوراة والإنجيل الكتب السماوية الثلاثة الداعية إلى التوحيد والتوراة أقدمها باعتبار كشف الفعل ، إذ في التوراة الدعوة إلى الإيمان بإله واحد فعال قهار لا شريك له ، ولقد أنزلت التوراة في زمن فرعون الذي ادعى الألوهية ، وفرعون رمز الأنا أو النفس الأمارة ، وكان ما كان في لقاء بين موسى وفرعون سنأتي على ذكره في حينه ، والمهم القول إن موسى دعا إلى عبادة الواحد صاحب الفعل لا الأنا.
والمسألة قديمة إذ أن ادعاء الربوبية هذا متأصل في الإنسان متجذر ، ومعظم الناس محجوبون ولا يعلمون ، يعلمون ظاهرا أنهم الفاعلون ، ويجهلون كيف يحركون ويتحركون ، وما سبب قدرتهم على التحريك ، والصوفية يقولون قولك يا أنا أعظم حجاب.