بمثابة ما يقدمه القلب ، المنور من العلوم الإلهية ... إذ ورد أن المسيح يخلق من الطين كهيئة الطير ، فينفخ فيه فيكون طيرا ، والإشارة إلى جبلة العناصر من الهيولى وتركيبها ، وهو أمر يذكر الإنسان بخلقه من علقة ، ثم من مضغة ، ثم ينفخ فيه الروح ، فالإنسان نصفه من طين ونصفه من روح ، أو هو نار ونور ، وفي الآية أن المسيح يخلق من الطين كهيئة طير ، أي أن خلق العلقة والمضغة يكون على حال يناسب أن يكون محلا للروح ، وهذا ما عبر عنه بقوله كهيئة الطير ، إذ أن الطير رمز الروح ، وسمي فريد الدين العطار كتابه منطق الطير.
أما إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فهو بمثابة شفاء الفكر والحواس الطالبة للحقيقة ، وهديه وهديها إلى صراط الحقيقة نفسها ، والإنباء بما يأكل الناس وما يدخرون في بيوتهم إنباء بحقيقة ما حصلته الحواس من العالم الخارجي ، فالمعلومات التي تم استخلاصها وظفر بها الفكر لها أصل سابق عليها هو الروح الفاعل نفسه ، فالمعقولات ليست صور العالم الخارجي فقط ، بل لها صور ثابتة في عالم الغيب سماها أفلاطون مثلا ، وسمتها الصوفية الأعيان الثابتة.
وهناك علم للصوفية اسمه التخاطر ، وقد اشتهروا به ، وقد ضرب الله مثلا المسيح في قدرته على معرفة ما يأكله الناس ويدخرونه في بيوتهم ، وفي عهد الصحابة ، صاح أمير المؤمنين عمر وهو على المنبر يخطب الناس يا سارية الجبل الجبل ، وكان سارية يقود جيش المسلمين ، وكان أمامه جبل بالفعل ، فسمع نداء عمر ، وانتبه وقصد الجبل ، وأنقذ بهذا جيش المسلمين ، وسمع الجنيد عن شاب يتكلم على الخواطر ، وكان يصحبه ، فقال : إيش هذا الذي ذكر لي عنك؟ فقال له : إعتقد شيئا ، فقال له الجنيد : اعتقدت ، فقال الشاب : اعتقدت كذا وكذا ، فقال الجنيد : لا ، فقال فاعتقد ثانيا ، قال : اعتقدت ، فقال الشاب : اعتقدت كذا وكذا ، فقال الجنيد : لا ، قال : فاعتقد ثالثا ، قال : اعتقدت ، قال الشاب : هو كذا وكذا ، قال : لا ، فقال الشاب هذا عجب ، وأنت صدوق ، وأنا أعرف قلبي ، فقال الجنيد : صدقت في الأولى والثانية والثالثة ، لكن أردت أن أمتحنك ، هل يتغير قلبك؟
وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يرى أصحابه في الصلاة وهم خلفه كما يراهم أمامه ، ورأى بيت المقدس عيانا وهو بمكة ، ورأى قصور الشام وأبواب صنعاء ومدائن كسرى وهو بالمدينة يحفر الخندق ، ورأى النجاشي بالحبشة لما مات ، وهو بالمدينة فخرج إلى المصلى وصلى عليه.
هذا العلم بالغيب يسمى الفراسة ، وقال عليهالسلام اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه يرى بنور ربه ، وقيل إن الشافعي ومحمد بن الحسن جلسا في المسجد الحرام ، فدخل رجل ، فقال محمد أتفرس أنه نجار ، فقال الشافعي أتفرس أنه حداد ، فسألاه فقال كنت حدادا وأنا اليوم