يشفع الواحد فقط ، بل أراد النعم المتوالية المتكفّلة بكفالته تعالى. ويكون فيه تنبيه على ما ذكر في قوله تعالى : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)(١). وقولهم : لبّيك (٢) وسعديك ، المعنى : كرّة بعد أخرى ، وتلبية بعد تلبية ، وإسعادا بعد إسعاد. وإنّما قال تعالى في جانب الحسنة يكن له نصيب منها ، وفي جانب السيئة يكن له كفل منها ، لمعنى حسن ذكره بعض أهل العلم ، فقال : الكفل ها هنا ليس هو بمعنى الأول بل هو مستعار من الكفل وهو الشيء الرديء. واشتقاقه من الكفل ، ذلك أن الكفل لمّا كان مركبا ينبو براكبه ، صار متعارفا في كلّ شدة كالسّيساء (٣) وهو العظم الناتىء في ظهر الحمار ، فيقال : لأحملنّك على الكفل وعلى السّيساء. وأنشد (٤) : [من الخفيف]
وحملناهم على صعبة زو |
|
راء يعلونها بغير وطاء |
قال (٥) : فمعنى الآية من ينضمّ إلى غيره معينا له في فعلة حسنة يكن له منها نصيب ، ومن ينضمّ إلى غيره معينا له في فعلة سيئة يناله منها شدّة. وفي هذا الكلام ـ وإن كان حسنا ـ نظر من وجه آخر وهو أنه جاء الكفل في جانب السيئة. ألا ترى إلى قوله تعالى : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ)(٦). وقيل : الكفل هنا الكفيل ، ونبّه بذلك على أنّ من تحّرى شرا فله من فعله كفيل يسلمه كما يسلم الكفيل المكفول ببدنه. وقد صرّحوا بذلك في قولهم : من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه ، منبهة منهم على أنه لا يمكن التخلص من تبعة ظلمه وعقوبته عليه ، فخوطبوا بذلك. فلله درّ فصاحة القرآن حيث جرى معهم في كلّ أسلوب من أساليب كلامهم ، فتظهر فصاحته وبلاغته في ذلك الأسلوب على كلّ فصيح بليغ. فأين هذا الكلام وهو قولهم : من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه ، من قوله تعالى : (يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ
__________________
(١) ٤ / الملك : ٦٧.
(٢) وتأويله : إلبابا بك بعد إلباب ، أي لزوما لطاعتك بعد لزوم وإسعادا بعد إسعاد.
(٣) ويقول : ابن منظور : السيساء من الحمار أو البغل : الظهر ، ومن الفرس : الحارك.
(٤) الشاهد في المفردات : ٤٣٦.
(٥) يعني الراغب ، وفي النقل تشويه صوّبناه من النسخة د ، ومن المفردات.
(٦) ٢٨ / الحديد : ٥٧.