لأن الأصوات والحروف لا تهدى ولا تشقى ، إذ لا تأثير لها في إحياء القلوب وإقبالها ، إنما الذي يحيي القلوب ويهديها كلام الله القديم الأزلي يدل عليه قوله تعالى : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشّورى : ٥٢] فالهادي الشافي المقروء لا القراءة ، والمفهوم من الصوت لا الصوت.
يدل على ذلك أيضا ما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم :
«ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن : اللهم إني عبدك وابن عبدك ناصيتي بيدك ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور بصري وجلاء حزني وذهاب همي ، إلا أذهب الله عزوجل همه وأبدله مكان حزنه فرحا» قالوا : يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات؟ قال : «أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن» فبيّن لك صلىاللهعليهوسلم أن كلام الله الذي هو القرآن هو الذي يهدي ويشقي لا قراءة القارئ.
وأيضا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بينا أنا في الجنة إذ سمعت صوت رجل بالقرآن فقلت من هذا؟ فقالوا : حارثة بن النعمان. كذلك البر. كذلك البر». وكان حارثة من أبر الناس بأمه ، وأضاف صلىاللهعليهوسلم الصوت إلى الرجل الصائت دون القرآن. ولو أني أتقصي الأخبار والآثار في الفرق بين التلاوة والمتلو ، والقراءة والمقروء لاحتاج إلى مجلدات عدة ؛ لكن ذكرت من ذلك ما فيه كفاية بحمد الله لمن له عقل سليم وفهم صحيح ، فإذا تقرر هذا صحّ لك أن القراءة صفة القارئ ، والمقروء على الحقيقة كلام الباري ، وكذلك الحفظ صفة الحافظ ، والمحفوظ كلام الله تعالى ، وكذلك الكتابة صفة الكاتب وصنعته ، والمكتوب كلام الله تعالى ، كما أن الذكر صفة الذاكر ، والمذكور هو الله تعالى. وكذلك العبادة من الصلاة ، والصوم ، والحج صفة للعابد وهي في أنفسها مختلفة الصفات متغايرة ، والمعبود بها واحد أحد ليس بمختلف ولا متغاير وهو الله تعالى. وفي هذا كفاية لمن سلم له التصور والفهم.
وأما الدليل من جهة العقل هو : أن يعلم أن القراءة تارة تكون طيبة مستلذة ، وتارة فجة تنفر منها الطباع ، وتارة رفيعة عالية ، وتارة منخفضة خفية ، وتارة يلحقها اللحن والخطأ ، وتارة تصح وتقوم ، وما جازت عليه الأشياء فلا يجوز أن يكون إلا صفة الخلق دون صفة الحق. وكذلك أيضا الكتابة تارة تكون مرتبة جيدة حسنة يمدح كاتبها. وتارة وحشية يذم كاتبها ، والإنسان إنما يمدح ويذم على فعله ، فصحّ أن