حينئذ أن قراءة القراء للقرآن بحروف وأصوات غير الحروف والأصوات التي تعنون ؛ فإذن ليس عندنا كلام الله تعالى ، بل هو غائب عنا ، لأن أصوات القراء وحروفهم هذه هي المعهودة الجارية في كلام الخلق. وكذلك أيضا يجب أن لا يكون في المصحف قرآن ؛ لأن الحروف التي فيه هي الحروف المعهودة الجارية في خطوط الخلق ، وكل هذين القولين باطل ؛ فثبت أن الحروف والأصوات يقرأ بها الكلام القديم ويكتب بها الكلام القديم ، لا أنها نفس الكلام. ثم يقال لهم : خبرونا : أيصح خروج حرف من غير مخارج؟ فإن قالوا : لا. قلنا : فتقولون إن الباري ـ تعالى عن قولكم ـ ذو مخارج من شفة للفاء ؛ وحلق للحاء ؛ ولسان للثاء ؛ وإن قالوا : نعم جسموا بإجماع المسلمين (١) ؛ وإن قالوا : لا تحتاج الحروف إلى مخارج ؛ فقد كابروا الحس والعيان مع قولهم بصحة الخبر المروي بزعمهم ، وذلك أن كلامه منه خرج ، وكلامه عندهم حروف ، فيجب على قولهم أن يكون خروجها من مخارج ؛ وكل هذا القول كفر وضلال ، وسفه وحمق وجهل عظيم.
* * *
فصل
فإن احتجوا بقوله تعالى : (حم (١)) [غافر : ١ ، فصلت : ١ ، الشورى : ١ ، الزخرف : ١ ، الدخان : ١ ، الجاثية : ١ ، الأحقاف : ١] و (الم (١)) [البقرة : ١ ، آل عمران : ١ ، العنكبوت : ١ ، الروم : ١ ، لقمان : ١ ، السجدة : ١] ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور ، وقالوا بالإجماع إن هذا كلام الله ، فصحّ أن كلامه حروف ، قلنا : الجواب عن هذا من وجوه :
أحدها : إن أردتم بقولكم إنها كلام الله تعالى ، بما تزعمون من الإجماع أن نفس صورة الألف ، ولام ، وميم نفس الكلام القديم ، فلا قائل بهذا غير جهالكم الذين لا فهم لهم ولا عقل ، لأن هذا القول منهم يؤدي إلى أن الكافر المشرك يقدر أن يوجد القديم ويفعل القديم ، لأن كل كافر كاتب يقدر أن يكتب صورة ألف ويلفظ بألف ، ومن عظيم الجهل أن يكون عبد مخلوق مربوب يقدر أن يوجد القديم ويفعل
__________________
(١) فتعسا لمن عزا إلى أحمد ـ كما سبق ـ سماع موسى التوراة من الله من فيه ، كما في طبقات الحنابلة لأبي الحسين بن أبي يعلى في ترجمة الإصطخري ؛ وذكره ابن بدران أيضا في المدخل. نعوذ بالله من الخذلان (ز).