جواب آخر : وهو أنه قد روي من الأخبار والآثار ما لا يحصى عددا أن الصوت مخلوق ، وأنه صفة القارئ لا صفة الباري ، فمن ذلك ما روى ابن جريج عن الزهري أنه قرأ بين يديه (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) [فاطر : ١] فقال : هو الصوت الحسن. فقال الأوزاعي رحمهالله أنه قال : ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل ، قيل : فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سماوات تسبيحهم وصلاتهم.
وقال أبو العالية : قال موسى صلىاللهعليهوسلم لقومه : قدسوا بأصوات حسنة ، فإنه أسمع له ، فأضاف الصوت إلى المقدسين لا إلى المقدس. وقال مالك (١) بن دينار في قوله تعالى : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص : ٢٥] قال : يقيم الله داود عليهالسلام عند ساق العرش ، فيقول : يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم ، فيقول : كيف أمجدك به وقد سلبتنيه في دار الدنيا؟ قال : فيقول جلّ وعز : إني أرده عليك. قال : فيرده عليه ، فيزداد صوته حسنا ، فيأخذ في التمجيد ، فيستفرغ داود نعيم الجنان ؛ يعني يشتغل أهل الجنة بحسن صوته عن نعيمهم.
فالصوت الحسن المردود المسلوب الرخيم صفة داود عليهالسلام التي يمجد بها ويقدس بها ، والممجد المقدس هو الله تعالى الخالق لداود ولصوته ولسائر الأصوات.
وروي أن عمر رضي الله عنه كان يقدم الشاب الحسن الصوت لحسن صوته بين يدي المهاجرين والأنصار. وقال أبو عثمان النهدي رضي الله عنه : صلّى بنا أبو موسى صلاة الصبح فما سمعت بصوت ولا بربط أحسن صوتا منه. وتبين من هذه الآثار المروية عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه جعل الصوت صفة للقارئ لا لله تعالى ، فقد روي عنه في هذا المعنى ما لا يحصى عددا ، فمن ذلك : ما روت عائشة رضي الله عنها قالت : قام رجل من الليل فرفع صوته بالقرآن ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم: «لقد أذكرني كذا. وكذا آية» قال أبو ذر : كان لي جار وكان يرفع صوته بالقرآن فشكوته إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكان يقال له ذو البجادين فقال : «دعه فإنه أوّاه» وكان أسيد بن حضير من أحسن الناس صوتا بالقرآن ، فقرأ ليلة وفرسه مربوط عند رأسه ، وابنه نائم إلى جنبه ، فدار الفرس في رباطه ، فقرأ فدار الفرس في رباطه ، فانصرف وأخذ ابنه وخشي أن يطأه الفرس ، فأصبح فذكر ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اقرأ أسيد فإن الملائكة لم تزل تسمع صوتك» وروى ابن سابط قال : أبطأت عائشة رضي الله عنها على
__________________
(١) لم يرفعه إلى المعصوم (ز).