بسم الله الرّحمن الرّحيم
الإمام الكوثري
بقلم الأستاذ الكبير الشيخ محمد أبو زهرة
وكيل كلية الحقوق وأستاذ الشريعة بجامعة القاهرة
(رحمهماالله تعالى)
١ ـ منذ أكثر من عام (١) فقد الإسلام إماما من أئمة المسلمين الذين علوا بأنفسهم عن سفساف هذه الحياة ، واتجهوا إلى العلم اتجاه المؤمن لعبادة ربه ، ذلك بأنه علم أن العلم عبادة من العبادات يطلب العالم به رضا الله لا رضا أحد سواه ، لا يبغي به علوّا في الأرض ولا فسادا ، ولا استطالة بفضل جاه ، ولا يريده عرضا من أعراض الدنيا ، إنما يبغي به نصرة الحق لإرضاء الحق جلّ جلاله. ذلكم هو الإمام الكوثري ، طيّب الله ثراه ، ورضي عنه وأرضاه.
لا أعرف أنّ عالما مات فخلا مكانه في هذه السنين ، كما خلا مكان الإمام الكوثري ، لأنه بقيّة السلف الصالح الذين لم يجعلوا العلم مرتزقا ولا سلّما لغاية ، بل كان هو منتهى الغايات عندهم ، وأسمى مطارح أنظارهم ، فليس وراء علم الدين غاية يتغيّاها مؤمن ، ولا مرتقى يصل إليه عالم.
لقد كان رضي الله عنه عالما يتحقّق فيه القول المأثور «العلماء ورثة الأنبياء» وما كان يرى تلك الوراثة شرفا فقط ، ليفتخر به ويستطيل على الناس ، إنما كان يرى تلك الوراثة جهادا في إعلان الإسلام ، وبيان حقائقه ، وإزالة الأوهام التي تلحق جوهره فيبديه للناس صافيا مشرقا منيرا ، فيعشو الناس الى نوره ، ويهتدون بهداه ، وأنّ تلك الوراثة تتقاضى العالم أن يجاهد كما جاهد النبيّون ، ويصبر على البأساء والضراء كما صبروا ، وأن يلقى العنت ممن يدعوهم إلى الحق والهداية كما لقوا ، فليست تلك الوراثة شرفا إلا لمن أخذ في أسبابها ، وقام بحقها ، وعرف الواجب فيها ، وكذلك كان الإمام الكوثري رضي الله عنه.
٢ ـ إنّ ذلك الإمام الجليل لم يكن من المنتحلين لمذهب جديد ، ولا من الدعاة إلى أمر بديء لم يسبق به ، ولم يكن من الذين يسمهم الناس اليوم بسمة التجديد ، بل كان ينفر
__________________
(١) توفي الإمام الكوثري رحمهالله عام ١٣٧١ ه.