تدخله الوساوس وحديث النفس فيما يخفيه الإنسان لأنّ ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه ، ولكن ما اعتقده وعزم عليه ، والحاصل أنّ عزم الكفر كفر ، وخطرة (١) الذنوب من غير عزم معفوّة ، وعزم الذنوب إذا ندم عليه ورجع عنه واستغفر منه مغفور ، فأما إذا هم بسيئة وهو ثابت على ذلك إلّا أنّه منع عنه بمانع ليس باختياره فإنّه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله ، أي بالعزم على الزنا لا يعاقب عقوبة الزنا ، وهل يعاقب عقوبة عزم الزنا؟ قيل لا لقوله عليهالسلام : (إنّ الله عفا عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به) (٢) والجمهور على أنّ الحديث في الخطرة دون العزم ، وأنّ المؤاخذة في العزم ثابتة ، وإليه مال الشيخ أبو منصور وشمس الأئمة الحلواني (٣) رحمهماالله ، والدليل عليه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) (٤) الآية ، وعن عائشة رضي الله عنها : ما همّ العبد بالمعصية من غير عمل يعاقب على ذلك بما يلحقه من الهمّ والحزن في الدنيا (٥).
وفي أكثر التفاسير أنّه لما نزلت هذه الآية جزعت الصحابة رضي الله عنهم وقالوا : أنؤاخذ بكلّ ما حدثت به أنفسنا؟ فنزل قوله : (آمَنَ الرَّسُولُ) إلى قوله (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) فتعلق ذلك بالكسب دون العزم ، وفي بعضها أنّها نسخت بهذه الآية ، والمحققون على أنّ النسخ يكون في الأحكام لا في الأخبار (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) برفعهما شامي وعاصم ، أي فهو يغفر ويعذب ، وبجزمهما غيرهم عطفا على جواب الشرط ، وبالإدغام أبو عمرو ، وكذا في الإشارة والبشارة ، وقال صاحب الكشّاف : مدغم الراء في اللام لاحن مخطئ ، لأنّ الراء حرف مكرر فيصير بمنزلة المضاعف ولا يجوز إدغام المضاعف ، وراويه عن أبي عمرو (٦) مخطئ مرتين لأنّه يلحن وينسب إلى أعلم الناس في العربية ما يؤذن بجهل عظيم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من المغفرة والتعذيب وغيرهما (قَدِيرٌ) قادر.
__________________
(١) في (ظ) وخطوة.
(٢) رواه ابن ماجه عن أبي هريرة.
(٣) شمس الأئمة الحلواني : هو عبد العزيز بن أحمد بن نصر الحلواني البخاري ، أبو محمد ، فقيه حنفي كان إمام أهل الرأي في وقته ببخارى توفي عام ٤٤٨ ه (الأعلام ٤ / ١٣).
(٤) النور ، ٢٤ / ١٩.
(٥) أخرجه ابن جرير من طريق الضحاك عن عائشة رضي الله عنها.
(٦) في (ظ) عن ابن عمرو ، وفي (ز) عن أبي عمر.