لأن الهاء خفية والخفي قريب من الساكن والياء بعدها ، والهدى مصدر على فعل كالبكى ، وهو الدلالة (١) الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلالة في مقابلته في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) (٢) وإنّما قيل هدى (لِلْمُتَّقِينَ) والمتقون مهتدون لأنّه كقولك للعزيز المكرّم : أعزك الله وأكرمك ، تريد طلب الزيادة إلى (٣) ما هو ثابت فيه واستدامته ، كقوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٤) ولأنّه سمّاهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين ، كقوله عليهالسلام : (من قتل قتيلا فله سلبه) (٥) وقول ابن عباس رضي الله عنهما : إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنّه يمرض المريض (٦) ، فسمّى المشارف للقتل والمرض قتيلا ومريضا ولم يقل : هدى للضالين ، لأنّهم فريقان : فريق علم بقاؤهم على الضّلالة ، وفريق علم أن مصيرهم إلى الهدى ، وهو هدى لهؤلاء فحسب ، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال ، فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا ، فقيل هدى للمتقين مع أنّ فيه تصديرا للسورة التي هي أولى الزّهراوين وسنام القرآن بذكر أولياء الله ، والمتقي في اللغة اسم فاعل من قولهم : وقاه فاتقى ، ففاؤها واو ولامها ياء ، وإذا بنيت من ذلك افتعل قلبت الواو تاء وأدغمتها في التاء الأخرى فقلت اتقى ، والوقاية فرط الصيانة ، وفي الشريعة من يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك ، ومحل هدى الرفع لأنّه خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر مع لا ريب فيه لذلك أو النصب على الحال من الهاء في فيه ، والذي هو أرسخ عرفا في البلاغة أن يقال إنّ قوله الم جملة برأسها ، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها ، وذلك الكتاب جملة ثانية ، ولا ريب فيه ثالثة ، وهدى للمتقين رابعة ، وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف عطف ، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض ، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة ، بيان ذلك أنّه نبه أولا على (٧) أنّه الكلام المتحدّى به ، ثم أشير إليه بأنّه الكتاب المنعوت بغاية الكمال ، فكان تقريرا لجهة التحدي ، ثم نفى عنه أن تنشبه (٨) طرف من الريب ، فكان شهادة وتسجيلا بكماله ، لأنّه لا كمال أكمل مما للحقّ واليقين
__________________
(١) في (ظ) الدالة.
(٢) البقرة ، ٢ / ١٦.
(٣) في (ز) على.
(٤) الفاتحة ، ١ / ٦.
(٥) متفق عليه من حديث أبي قتادة.
(٦) موقوف عزاه الطيبي لأبي داود وحده مرفوعا ، والحديث بتمامه عند ابن ماجه وأحمد وإسحاق في مسنديهما ، وفيه أبو إسرائيل المكي وهو صدوق سيء الحفظ.
(٧) ليست في (ظ).
(٨) في (ظ) و(ز) يتشبث به ، وتنشبه : تعلق به.