قدموها لنا ، ابتداء من العقليين (المعتزلة ، والشّيعة) ، الذين يؤكدون ذلك الرّأي بصورة عامة ، حتّى الأشاعرة الذين ينكرونه إنكارا مطلقا ، وبين هؤلاء وأولئك الماتريدية الذين يسلمون به في حدود الواجبات الأولية.
ولكن من ذا الّذي لا يرى أنّ العقليين من المتكلمين عندنا قد تغالوا في إعتقادهم بعصمة العقل الإنسانى؟. وأ ليس هذا على الأقل مجالا عصيّا على إدراكنا؟ .. وخذ مثلا : الطّريقة الّتي يؤدي بها المرء عبادته لخالقه ، فلو ترك لكلّ أمرىء أن ينظم هذه العبادة فلن يخلو الأمر من إحتمالين : فإمّا أن يبقى متحيرا لا يفعل شيئا ، وإمّا أن يلجأ إلى كلّ ضرب من ضروب التّخى ، ل والإعتساف.
وحتّى بالنسبة إلى جميع المجالات الأخرى ـ يجب أن نعترف بأنّ هذا النّور الفطري الّذي يغلفه الهوى ، وتفسده العادات ، ينبغي أن يتعرض لنوع من الكبح ، وأن يظفر بجملة من التّوجيهات ، تختلف بإختلاف الزّمان ، والمكان ، والأمزجة ، وإلا ، فإنّ اليقين الأخلاقي ـ بصرف النّظر عن بعض الواجبات الأساسية المعترف بها لدى جميع الضّمائر السّوية ـ سوف يخلي مكانه تدريجيا للأوهام ، وضروب الشّك ، وصنوف الضّلال.
فمثلا ، ما واجبنا حيال طبيعتنا العاطفية؟. أمن الواجب ألّا نستجيب لشيء من شهواتنا ، وأن نفرض على أنفسنا الآلام ، وألوان القهر ، والتّقشف ، وأن نمضي في هذه الطّريق مع البوذية ، حتّى نبلغ مرحلة (النّرفانا) (١) ؛ أو درجة الإمحاء
__________________
(١) النّرفاتا ، في فلسفة الهنود تعني إمحاء الذات في الكلّ «المعرب».